Thursday, June 10, 2021

هوامش عن الموت 1

متى نعلم الناس بتلك الأخبار التي تزعجهم؟ والتي إن عرفوها لا يعودون لحظة للخلف. متى نقرر كيف نخبر الناس ما يؤلمهم أو يفرحهم، تلك الأخبار التي تقتطع من العمر لحظات وسنوات فيما بعد كالولادة والموت والمصائب؟ في كل مرة أجبر أن أخبر أحدهم بخبر مؤلم أصدم، وفي أول مرة اضطررت أن أحكي فيها خبر الموت لأحدهم كان الشعور غريبًا، أنا التي نشأت بمعزل عن الموت وأبعدت نفسي عنه عمدًا. فعلى كل حبي وفضولي الأبدي لزيارة المقابر والاطلاع على شواهدها، إلا أنني ما زلت غريبة عن الموت. 

في تلك المرة، كان الوضع غريبًا وصعبًا، اضطررت على الاتصال به لإخباره بموت والده، وكأنني بمعزل كليًا عن الخبر. وتحولت فجأة لإخبار وضرورة اتخاذ بعض الخطوات لأجل "إتمام الموت" واللوجستيات المطلوبة، قبل أن أشعر بذلك الموت بحد ذاته. بعد مرة أصبح الموضوع أصعب وأغرب، كيف أخبر الناس القريبين من الميت بموته، كيف أخبر أصدقائي بموت صديقي؟ كيف أكون أنا من أنقل هكذا خبر على الرغم من إبعادي لنفسي عن كل لحظات الموت القريبة مني، بعزل نفسي عن الذهاب للجنازات والدفن والعزاء، وأراقب من بعيد جدًا ماذا يحدث. أسأل وأستفسر وأطمئن على الأحياء الذين يؤلمهم الموت لا أكثر: "فالموت يوجع الأحياء". 

ما زلت لا أفهم الموت ولا أستوعبه، هو إلى الآن غياب حبيب وبعده، هو ألا نستطيع التواصل معه بعدها، هو أن يبتعد ويعتزل ويعزل نفسه (وإن كانت بإرادة دنيوية وليست بقرار شخصي). هذا الابتعاد هو ألا نستطيع التواصل معه بعدها، هو أن يبتعد لدرجة أن التواصل يكون في الأحلام فقط، لا لأنهم يزوروننا في الأحلام، بل لأن عقلنا يقوم باستعادة الذكريات، أو بالأحرى يقوم العقل بترجمة الاشتياق في اللاوعي ليظهرهم لنا لا أكثر. 

ضمن حالة عدم فهمي للموت أذهب للقبور، وأعتبرها زيارة للقبر كما يعتبرها كثيرون. ضمن هذه الحالة أحب زيارة المقابر، تغريني الشواهد وطرق التنظيم وكيف يصبح الموت منظمًا أو مبعثرًا عشوائيًا حسب المسؤولين عن المقبرة. ومن الملفت أشكال الدفن والقبور، وجود الشواهد من عدمها، فكرة أن الجسد يتحلل فعليًا بعد سنوات بغض النظر عن فكرة عدم تحلل بعضها أو غيره. فالأرض تنقلب بعد سنوات وتدفن فيها أجساد جديدة أو تبقى إلى حين أن يأتي شعوب لا تؤمن بعدم تحلل بعض الجثث فتقلبها، أو تقوم الأرض بالانقلاب على نفسها وبلع ما تحويه من أجساد وغيرها. 

يموت من نعرفهم فنفقدهم، نفقد تواصلنا الجسدي والفيزيائي معهم، نفقد ما يحملونه من ذاكرة يسردونها علينا في حياتنا اليومية، ونفقد خطواتهم التي تجمع أو تفرق آخرين، ولمستهم في حياتنا والتي كثيرًا ما تحتوي الكثير من المشاكل المبطنة. يموتون، فنفقدهم، ولا يبقى هناك "طعم" لرؤيتهم بعد الموت، ولا لجنازاتهم -إلا في حالة الشهداء لكونها فعلًا وطنيًا بحتًا- ولا لعزاءتهم التي نعزي فيها أنفسنا بفقدهم لا أكثر.

نفقد الموتى لنشعر بالألم لغيابهم عنا، لنشعر بالألم لكونهم لم يعودوا موجودين، نفقدهم لنشعر بفراغ حتى لو كانوا بعيدين كل البعد عن يومنا. نفقد الموتى فنعزني أنفسنا بفعل العزاء الجماعي لألا نكون وحيدين في تلك اللحظة. نفقدهم ونفتقدهم ولكنهم يمضون، إلى أين؟ 

يمضون إلى مجهول مهما درسناه فهو عالم آخر، إن كان سكينة أو جنة أو عذاب أو غيرها، فلا يهم. لا يهم. لا يهمني ما يأتي بعد لهم أو لي، لربما تتناسخ أرواحهم وتولد من جديد، لربما ينتقلون لحالة أخرى كشجر وحجر وطير وسمك، لربما يتحللون ويذهبون دون رجعة. لا يهم. لا يهم الما بعد للأموات فهذا شأنهم وشأن كل منا عندما ينتقل للحالة التالية. ولكن المهم هو كيف نشعر، كيف نحكيهم بعد غيابهم، بعد أن نفتقد لمستهم في حياتنا اليومية. 

الشهداء حالة مختلفة، وبكوني فلسطينية، فمن حقي أن أحكي قليلًا. من حقي أن أقول أن الجنازات الوحيدة التي حضرتها شخصيًا كانت أولها لشهداء، في منظر مهيب. من المهيب أن ترى مئات وآلاف الناس مجتمعين لأجل جنازة شهيد، قبل أن ينقل الجسد إلى مقر آخر يزورونه فيه، قبل أن يصبح الجسد حالة وفعلًا وطنيًا. فالشهداء لا يموتون الآن، لا يموتون إلا بعد انتقال الأزمان واختلاف الشعوب. لربما تختلف مكانة الشهداء بعد اندثار الشعب الموجود كالأنباط والفراعنة وغيرهم. وقتها ينتقل الشهداء ويندثرون فحسب. 

الذهاب لجنازة الشهيد فعل وطني، فعل تأكيدي على وجودنا فلسطينيًا، على تآزرنا، على اعتراض الشعب الفلسطيني المستعمَر على استعماره وسلب أرضه. وموت الشهيد ليس كأي موت، ليس مشابهًا لأي شيء. موت الشهيد حالة وطنية. تآرزنا مع "رجعة الخي" مختلفة عن كل موت آخر، وكل شيء آخر في حالات الموت. 

الموت حقيقة ثابتة، والغياب حقيقة أكثر صلابة، هي ما يؤلم الأحياء ويوجعهم ويؤذيهم. انعدام قدرتهم الذاتية على الحديث والتسامر والحياة مع الميت، وألم الموت فعل أناني، فعل يخص الفرد المتألم قبل أن يخص الميت. فهم انعكاساتنا، إحساسنا بوجودهم أمان أو قلق، والموت يليه عزاؤنا لأنفسنا عما كان، عن لحظات الحياة التي كنا سنستطيع استغلالها، عن لحظات كنا سنستطيع فيها زيارة هذا الميت البعيد أو معرفة معلومات منه أو أخذ رأيه في أي شيء. الموت يؤلم الأحياء كما قالها درويش. 



Wednesday, August 7, 2019

ملاحظة غير مهمة عن تصنيف الانتماء



مؤخراً، بعد العودة المجيدة في زيارة للوطن وللأردن، اتابتني مشاعر جديدة، ولكن ليس هذا هو الأهم. الأهم شعور بسيط صغير مزعج عندما ينصنفي أحدهم في فلسطين بأني "لست من هنا"، ففي فلسطين لم تزعجني سابقاً، فمن الواضح أن الجميع يعرفون بلا شك لهجتي العمّانية الأقدم من اللهجة العمّانية البيضاء الموجودة الآن، تلك اللهجة التي اكتسبتها من سنوات الخليج الطوال، ولم يزعجني في فترة أربع سنوات من الاستقرار في رام الله إدراك الناس لتلك النقطة، ولكن ازعجتني وانتباتني موجة إزعاج عارمة  عندما نطقها أحد السائقين هذه المرة. كيف يجرؤ بأن يصنفني بأني لست من هنا، وأنا التي من هنا أكثر من كثيرين، أنا التي أحب هنا الخاصة بنا أكثر من نفسي!
لم ترف عيني للحظة عندما وصفتني امرأة اليوم في عمّان بأني لست من هنا، عمّان ليست مكاني أو موضعي أبداً، ولا أظنها يوماً ستكون.
كل الحب لرام الله، لتلك الأسود والتماثيل الثابتة المتعِبة لذاكرتنا المزدحمة بالمكان وبكل تفاصيلها، حتى تلك التي لم نعشها، ولم نختر ألا نعيشها


Friday, July 26, 2019

نص موغل بالذاتية وأنا


أصبح من الصعب عليي أن أسمع تحليلاً جديداً عني من المحيطين فأستغربه، فكل ما يقال وكل ما يقولونه أعرفه عن نفسي جيداً، فأنا تلك التي تدعي أنها تعرف نفسها جيداً. تلك التي تدرك ما فيها وما يحيط.
التحليل الذي أعجبني يقول أن وجهي يرتخي ويختلف وتختلف ضحكتي مع أولئك الذين أحبهم وأرتاحهم فعلاً، أولئك الذين يلامسون مساحةً في روحي موجودة فقط لهم، أولئك الذين يكونون هم الطريق في أغلب الأوقات.
وهذا موجود، موجود فعلاً ولكن تلاحظه هذه السيدة لأول مرة، تلاحظه كثيراً بشكلٍ غريب. 

نخبٌ آخر أعجبني، صديقتي وهي تقول "لمجد، تلك التي تتغير الدنيا وهي تجيء وتعود كما هي، دون أن تتغير". وهذه العبارات مهمة جداً لي، مهمة جداً لمجد  التي تتغير كثيراً دون أن يلحظ أحدٌ تغيرها، تلك التي مع الزمن تتمدد. أنا تلك التي حسب حديث صديقنا "التي لو عرفها أفلاطون لكتب لنا مدينة جديدة دون أن يدركها"، أنا تلك.

هذه المدونات أصبحت موغلةً بالأنانية الشخصانية الشخصانية، أنا تلك. تلك الكثيرة البعيدة القريبة، القريبة من كل ما تحب. القريبة منكَ مع إنكارك المبطن لكل ما فييَّ يا عزيز.

على هامشٍ صغير ذاتي أيضاً، لم تستطع معدتي الحديدية أن تكون حديدية كما يجب وكما كان، لم أعد أستطيع أن آكل بنفس الكمية والشغف والسرعة. أنا ذات المعدة التي لا تتغير، من الواضح أن جسدي بدأ يهرم، ويطلب مني اهتماماً من نوعٍ آخر. نوع يتطلب اعتناءً بالطعام والوزن ومدى الطعام. 

أنا تلك، التي تفقد رويداً رويداً ذاكرتها، إحساسها بالوقت والزمن، وقدرتها على مجاراة ما يكون. أنا تلك التي تمضي وقتاً الآن وهي تدرك أهميته، وتعبها باستمراريته بهذا الشكل، بهذا الشكل الذي لم يكن منهِكاً لي يوماً. ها أنا أتغير.

أنا التي لم تعد تقدر على الكتابة كما كنت وأنا التي أعشق الكتابة شغفاً وحباً. 
أنا تلك التي لم تكمل طريقاً أبداً، وخاصة الطرق الطويلة الشخصية. أنا التي أدركت أنها لا تكمل طريقاً بأي شكلٍ كان.


Tuesday, July 16, 2019

عطاياهم الممتدة


عن عطاياهم الكثيرة 

في أسئلة تتعدد لدى جميع محبينا، وأصدقائنا، وأولئك ممن نضعهم في دوائر رمادية لا هي صداقة ولا هي معرفة، إلا أني أعرف أهمية الأصدقاء، أصدقاء العمر.

على رغم ما يسميه كثر حولي بنضج ولكن مع عمرٍ صغير إلا أنني، كما أنا وكنت دوماً، أؤمن بالأصدقاء وبصدقهم، بالمناسبة أعتقد أن الأصدقاء جاءت من الصدق. صدق التجارب وأهمية السابقين الأولين، أولئك الذي نمضي برفقتهم عمراً وأعماراً صغيرةً بعثرناها في حكايانا الكثيرة التي ضاعت في كلامنا الممتد.

أؤلئك الذين نشعر بهم رغم وحشةٍ تسكننا جميعاً، وألمٍ نعيشه جميعاً بشكلٍ متوازٍ، ولو نظرنا له بعد زمنٍ لربما لا يعنينا، ولكنه حَفَر فينا تفاصيلنا وتفاصيلنا معهم.

عطايا الأصدقاء تختلف أشكالهم، أولئك الذين يحبوننا بشكلٍ لا ينتهي، ونعرف محبتهم التي لا تنتهبي، وأولئك الذين نشعر تجاههم بتأنيب الضمير، لا لتقصيرنا معهم، بل لأننا نعرف أننا لن نستطيع حبهم بنفس القدر أو الشعور، ولن نستطيع أن نعطيهم ما يعطوننا إياه من محبة، حتى على مستوى المشاعر. 
أولئك الذين يقدسوننا متعبين، متعبون ومتعبين. نحبهم حباً جماً لا ينتهي، ولكن أحزن، لأن حبي مهما تناهى لن يصل ربع مقدار حبهم وما يقدمونه من مشاعر ومخاطر لنا.

أولئك الذين يقدمون لنا أرواحهم على شكل مخاطر بسيطة وصغيرة وممتدة، ممتدة لا نصل لأطرافها، فأنا على الشاطئ أبقى، أبقى على الشاطئ لا أغوص وأنا أعرف ما أنا.

أعرفُ أن محبتهم تقاس بالمشاعر، والمشاعر لربما لا تقاس. لا تقاس بكل ما نقدمه لهم وتجاههم.
أعرفُ أني عندما سأعود لأرى هذا النص، كما غيره الكثير، سأعود وأنظر لتسلسل نظرتي للأصدقاء على مدى هذا العمر القصير الطويل المنهك. عمري المنهِك والمنهَك لا لشيء، بل لوجودي فيه فحسب.

من الجميل عندما ندرك أن دائرة الراحة تتمدد وتتوسع طوال العمر، وتتمدد بقدر امتدادهم المختلف فيي. هذا الامتداد الذي يصبح متعِباً عندما لا نقدر على مجاراته، ولا مجاراة أعشاره.

أذكر ليلةً مهمة، قررت فيها أن أصارح أحدهم بأنه يكفي قدر حبك لي، يكفيني هذا القدر، لا لأنه كثيرٌ كثير، ولا لأنه مخفوف فعلاً بمخاطر، بل لأنني لن أستطيع يوماً الوصول له، ولا لجزءٍ منه. وتؤلم جداً لحظات اعترافهم بأننا نضحي لأجلكم كثيراً، أكثر مما تعرفونه.
هي العبارات المحفوفة بالصبر والصبار، العبارات التي تكون وكأنها أسنان شوكٍ ينخز، وكلماتٌ لربما تنسيني إياها ذاكرتي المتاهلكة، تلك الذاكرة التي ستسقط قريباً أكثر مما هي تتلاشى، حتى يأتي مكانها الفراغ.

ها هي الذاكرة تمحى وتتلاشى، وها أنا أنسى قصصي المؤسسة، لولا ذاكرتهم الجميلة التي لا تنسى. لولا ذاكرة أولئك السابقين الأولين الذين لا ينسون شيئاً أبداً، ولا ينسون أي تفاصيل عنا وفينا.

أعجبني صديقٌ قريب بعيد، أعجبني كيف حولني لمدينة ولحالة، ولحالةٍ لو عرفها أفلاطون لربما لن يعرف الكتابة عنها، أو لربما ألَّفَ عنها شيئاً جديداً دون أن يصل لشيء، فالطريق قربي لا توصل أحداً لشيءٍ مهما حاولت.

نصٌ متعبٌ وممتلئ بالأنانية، أليس كذلك؟

يدعونني جميعاً دون استثناء إلى الأنانية، إلى تذكر نفسي قليلاً، إلا عندما يخصهم الأمر ويخص الوقت الذي أقضيه معهم، وهم كثر، وأحباب القلب كثار. أحباب قلبي كثر، وأصحاب عمري يمتدون قليلاً قليلاً وكثيراً، كثرٌ بالعدد وكثر على الحب. هل يوجد حدٌ لحب الأصدقاء؟

في حبه لم أجد حداً أبداً، لم أتوقع أن العقل فالقلب قادرون على المشاعر بهذا القدر، فلم أتوقع مقدرتي على استيعاب الحب واستوعبته، أو أظن أني استوعبته.

تشربت فيه تفاصيله الجميلة الكثيرة الغنية، تلك التفاصيل التي تجعلني أعرف يقيناً قدره، وتلك التفاصيل التي تجعلني أعرف جيداً مقداره، تلك التفاصيل التي تجعلني أتأكد في كل مرة أن شأنه سيكون كبيراً كبيراً وعالياً كما أرجوه، وأن تفاصيله هي التي أتعبتني يوماً، لن تكون هباءً أبداً.

تفاصيله تفاصيل حب، حب هكذا، دون تعريف أو حتى دون ألف التعريف. تفاصيل متعِبة متعِبة، تلك التفاصيل التي كنتُ أدركها جيداً، والتي أعرف فيها ابتسامة وجهه، وسعادته بوجودِ من يحب. تفاصيله التي أعرف أنها لن تكون لي الآن، ولربما لن تكون في أي يوم، قريب أو بعيد.

تفاصيل كثيرة، أرجو ألا تنساها ذاكرتي المتعبة المتآكِلة، والتي رجوت أن أنساها وأتفاداها كثيراً ولن أتفاداها. لربما بعد سنين، ولكن السنين الماضية لم تكن كافية يا عزيز.
لم تكن التفاصيل أبداً كافية لنسايتك عمراً، يا عمراً. 
تعود تفاصيل العمر والإيحاء لتتدفق هنا، وتتدفق بعمق فعلاً دون سابق وعي أو إنذار بها، وكم أتعبتني بتفاصيل العمر يا عمراً. 
تعود تفاصيل الحياة والوحي لتتدفق هنا، قرب الأرض المقدسة، ولربما أخشى ما أخشاه بأن تتدفق عمراً جديداً بعد الوصول للأرض المقدسة ذاتها. ستكون عمراً جديداً متعباً، الله يستر منه.

نعود للأصدقاء، عطاياهم الكثيرة وحبهم الممتد المتدفق. أولئك الذي يقدسوننا كثر، بإحساسنا بهم ودون إحساس أيضاً. أولئك الذين لن يكفينا عمرنا على أن نردهم بعض حبهم، وبعض عطاياهم المتدفقة في حقول الشوك والصبار، أولئك الذين يحبوننا أكثر من طاقتنا بكثير. 

أولئك، أحبهم، أحب عطاياهم، وأحب حبهم، مع أني أعرف أني لن أصل يوماً لربعه أو لأجزاء منه أبداً. أولئك الذين مهما دارت بنا الأيام كتفٌ صلبٌ نتكئ عليه في قسوة الأيام وقسوة الوعي. أولئك الذين يتحملون منا ما لا نظن أننا نعطيه ونفعله، أولئك الصريحون المحبون والحنونون، الحنية. الحنية التي لا نستطيع عليها، فأنا قاسية، يا نصاً مفرطاً فييَّ كثيراً.

شكراً لكم، لحبكم اللا نهائي، لعطائكم المستمر والعظيم. بعضهم عظماء، عظماء جداً يتحملون تعباً لا نتحمله بداخلنا أولئك الذين نحبهم كثيراً كثيراً. 

نحبهم، ولن نصل لربع حبهم فينا.

ومجدداً، لكَ يا عمراً كُتِب فييَّ ولا يمحى لسبب، لي فيك حب. 

عمّان
15-7-2019

Tuesday, November 13, 2018

ما مدى الذاكرة الفردية


ما مدى الذاكرة الفردية
  
هو الاستحضار والزمان والمكان المتعب.
هو بذاته تعب الذاكرة وهي تلملم نفسها، رافضةً النسيان، أو أي نسيان بالمناسبة.
هو بذاته ليسَ تعب سنين، بل تعب الذاكرة في سنة أكثر من كل السنين.

تعب الذاكرة ليسَ بعدم فقدانها، أو بذاكرة السمكة المستمرة. تعب الذاكرة بأن يتجسد كلّ ما هو موجود بكل ما هو جزئياً غائب، ويجب أن يغيب مع الأيام. أذكر هذا العام كيفَ أعدت قراءة صفحاتٍ وصفحات لا تحكي إلا عن الذاكرة، عن أصنام الذاكرة في الأفراد، في المخيلة الجمعية والفردية. وكيفَ تعلق الذاكرة لألا تتحول بما يحيطها، فتعلق فيها شذرات وأطراف من الذاكرة المؤكدة، عبر نظام الدولة الاستبدادية، التي وحتى عندما تسمح بالإبداع والفكر الجديد، فهي لا توظفه أو تستخدمه إلا في حالات استدعاءٍ لما يفيدها، لِما يعزز سلطتها ويعزز موقعها ومكانتها. عندما تختار الدولة أن تفرضَ علينا ما يعزز سرديتها المستمرة، فتسمي الشوارع والأماكن والنصبَ التذكارية بما يخدمها فحسب. عندما تفرض علينا ما يجب أن نقوم باستدعائه مجدداً وتكراراً كما تريد الدولة، ترفض هندسةً مجتمعية موحدة للذاكرة، تفرضُ علينا كيف نهندس بناء المقالات والكتب لتستدعي بدايةً ما ترغب به الدولة، وما ترغب الدولة بأن نبدأ به فتتعب الكلمات وتزيد فلا نذكر المخبأ والموجود بين الأحجار حولنا.

عندما تفرضُ الدولة نصباً تذكارياً محدد المعالم والحمولة الثقافية وسط الدولة، ليكون مركز الحديث عن كل ما يخص المكان، وعن تفاعلاتنا اليومية فيه، فهي تفرض محو المدينة والمكان ككل إلا كما ترغب هي. تفرضُ أن نتذكرَ سعادةً تريدُ بثها في هذا النُصب عوضاً عن شهداء وجرحى وأسرى كانوا هنا في نفس النصب والمكان. المكان كمكاننا نحن، مَن نتفاعل بداخله ونحاولُ بناءه كل يوم.

عندما تفرضُ الدولة استحضار ذاكرةٍ واحدة، هي لا تمحو فقط ذاكرة المكان ككل، وتمحو ذاكرة الأشخاص الذين حاولوا تشكيل هذا المكان يوماً ما بطريقةٍ مختلفة. تمحو الزمان وتوقفه لألا يتحرك مجدداً سوى بأمرها وبإرادتها
تقرر الدولة بإبقاء نصبٍ تاريخي قديم وإيقاف الزمن في تلك اللحظة أن تُبقي هيمنة النصب على أفرادها، على مَن لن يخرجوا مما أمامهم للتفكير بما وراء المكان، بكيف كان ويكون. وأنا لا أطلبُ محو التاريخ أو إزالته، ولا أطالبُ بوضعِ الجديد بشكلٍ مستمر، لأن الدولة حتى لو قررت وضعَ أي نُصبٍ جديد، فهي ستقرر الشكل والمضمون للجديد الذي سيهيمنُ مجدداً على مَن يمرون بجانبه كل يوم، ومَن سيكتبون عنه مراراً وتكراراً.

في هندسةِ المكان، قررت الدولة أن تهيمنَ على الهندسة الاجتماعية عبر المعمار المفروض، والشوارع التي يُسمح للأفراد بالمرور فيها مشياً أو بالسيارات فقط، أو تلك الشوارع التي عادةً ما تُغلقها لمرور أهم الشخصيات ومواكبهم، فيتجنبها الشعب لازدحامها وتوقفها.

في بناء الذاكرة تهندس الدولة أفرادها على استحضار ما ترغب به، وعلى نسيان ما لا يُسمح بالحديث عنه، أو حتى تخفيض أصواتهم خوفاً من الجدران التي تَسمع. ولكن ماذا يحدث بداخلنا عندما نقرر الذاكرة وننساها، وهل الذاكرة الفردية الطوعية تستطيع الخروج من الهندسة الأكبر للدولة؟ هل تستطيع الذاكرة الداخلية لدى الفرد الخروج من ربط الشوارع والمقاهي والمنتديات عن تجاربها اليومية التفصيلية، تلك الشوارع التي هُندِست من الخارج نحو توجيهٍ محدد؛ الجهات المخفية التي يُسمح فيها بما لا يُسمح في الفضاء العام الأعم، الفضاء العام الأكثر خصوصية. ما مدى انعكاس حريتنا داخل ما تستحضره أذهاننا في لحظات الوَجد والألم والقسوة، وكيف نتخلص من هيمنة الذاكرة الأعلى بداخلنا، قبل التخلص من هيمنة الذاكرة الجمعية التي تُفرض قسراً على الجميع.



Tuesday, September 4, 2018

عن فقاعة رام الله

عن فقاعة رام الله

عشتُ في رام الله أربع سنوات كانت كفيلة بأن تجعلها تعيش فيي عمراً طويلاً، وتصبح كنزاً أبحث عن آخره، وبقدر ما قد تكون هذه الجملة كيلشيه سمعناه بقدر ما هي تعبر عني.


كتبتُ أطروحتي الماجستير حول "رام الله الفقاعة"، وتشديدي فيها كان لدراسة تشكيل الأفراد للمدينة وتناقضاتها، ولا ينبع هذا من وصفي الشخصي لها بالفقاعة، بل باستنادي على مجموعة كُتاب ومحللين ودارسين وسكان المدينة ذاتها، فكلنا "أهل رام الله".
كتبتُ عن رام الله كما رأيتها، ودرستها كما كنتُ جزءاً فيها وكما نكون جميعاً، وسعادتي الكبيرة بعرض الأطروحة في عدة مناسبات ولم تتوقف، ولكن سعادتي بحلقات الأستاذ القدير الرائع، عمو القريب من قلبي، فتحي البرقاوي، في برنامجه ظلال في الجانب الآخر الذي يقدمهعبر إذاعة أجيال من رام الله، كانت سعادةً مختلفة.
في  هذه الحلقات، التي أشار إلى أنها استندت على أطروحتي، استضاف عمو فتحي عدداً من الشخصيات الذين استندت عليهم في الأطروحة، وسألهم عن جوانب تناولتها في أطروحتي؛ قدر المكان، قدر المحبة، السكان وتغير المكان عليهم، حالة الفقاعة  بحد ذاتها، والكثير الكثير.
ارتبطت هذه الأطروحة بالمكان والمدينة بذاتها، وبأشخاص هذه المدينة الذين يشكلونها، يشكلون كل ما فيها، ويشكلون تغيرها دون أن يعُد أي منا أننا من خارجها؛ نحن جميعاً أبناء هذا المكان والزمان، وربما أبناء الفقاعة أيضاً.
ولربما يتوقع الجميع أن تكون الأطروحة هجاءً وذماً في مدينتي من اسم الأطروحة، فمَن يستخدمون فكرة الفقاعة إما يؤكدونها ويستخصلون التناقضات ليدللوا على ماهية مكانهم هذا، ومن يعارضونها يعتبرونه مصطلحاً مناقضاً لجمال المكان؛ ولكنه مكاننا جميعاً.


لا تهاجمُ حلقات البرنامج، أو الفكرة والأطروحة رام الله، أو تمدح/تذم فقاعتها، هي فقط تستعرض/تدرس وتحلل وجودنا في هذا الحيز ككل، كيف نتفاعل في حياتنا اليومية مع كل مستجداتها، كيف يتماهى الحيز العام والخاص وكيف تكون العديد من التفاعلات.
لم ترتبط الأطروحة بسؤال الذاكرة بشكلٍ اعتباطي، فكل ما يقام على هذه الأرض مرتبط بسياقٍ كامل ما زال يتطور. فيؤرخُ لأول تواجدٍ في هذه المدينة (عندما كانت خربة) في العصر الحجري وصولاً إلى مرحلة الحدادين والنكبة وما تلاها، ولكن ذاكرتنا ومخيلتنا هي ما شكَّلَ مكاننا.


رام الله الفقاعة، فقاعتنا وواقعنا، هي ذاتها رام الله التي بدأت الإضاءة فيها من المنارة، والتي رقصت وسط أسودها امرأة منذ سنوات، وهي نفس النقطة التي صُفِّيَ عليها عُملاء في الانتفاضتين، هي ذاتها التي أقمنا عليها مجموعةً من المسرحيات والنشاطات الترفيهية التثقيفة، وذات النقطة التي نلقى فيها أحباءنا حتى نكمل الطريق كلما نصلُ مدينتنا. هي ذاتها اللحظة التي قررت فيها السلطات أن تجعل ذاكرتنا صنمية وتجبرنا على استعادة اللحظات التاريخية وموازين القوى بأسودها الخمس.


مكاننا، فقاعة أم لا، ودلالات الفقاعة بسلبياتها وإيجابياتها هي ما نمى سؤال الأطروحة لدي، هي ما جعلني أراجع  أفكار الأطروحة مع أساتذة ومناقِشين مهمين طوال سنة كاملة، وهي ذاتها التي جعلتني أحلل أفكاراً ووقائع تحيط بالمكان، وهي ما جعل الرائع فتحي البرقاوي يقدم حلقتيه حول رام الله، وأنا أدركُ جيداً أن الفكرة لا بد راودته قبلها كثيراً.
عندما نكتب عن ذاكرتنا ومخيلتنا للمدينة، نحن نصف حالاتٍ وأفكار تولد في اللاوعي وندرك بعضها، ونعمل جاهدين في نقاشات الأفراد المطولة وكتاباتهم على تحليل أفكارنا، تحليل ما نراه عندما نمشي وسط البلد 10 دقائق كل يوم بين سرفيس وفورد، وهي ذاتها التي تولّد لدينا الأفكار. وبالبحث البسيط يُصدم الإنسان بالقدر الهائل الموجود عن المدينة من كتابات وأدبيات ونصوص ولكنها تبقى مبتورة في جزءٍ ما، تبقى فيها النقاط العمياء التي تكتمل برؤيتنا، أو بعدمها.
في رام الله لا انعدام للمخيلة (فردية أم جمعية)، لا انعدام للمكان والزمان. وحتى قرار نفي المكان من المخيلة يعني أن يعيش فيها الفرد كما يتصور أنه يريد، وأن يعيش المكان بنفيه بشكلٍ متجدد، ونفيه يوماً بعد يوم يؤكده، ولكن تلك قصة لوقتٍ آخر.


حلقات البرنامج: برنامج ظلال في الجانب الآخر، يقدمه فتحي البرقاوي، عبر إذاعة أجيال
مدينة رام الله (الجزء الأول) http://www.arn.ps/archives/218575
مدينة رام الله (الجزء الثاني) http://www.arn.ps/archives/218754


صباح الله يا رام الله
صباح الله يا رام الله


Sunday, July 22, 2018

سعياً للزمن

سعياً للزمن

ليسَ لي من ذاك البحر إلاك، ليسَ لي منهُ أي شيء..
بحر درويش الذي كان له، هو أنا كما رأيتُ بحري يوماً، فالمحيط الأطلسي بكبره أزعجني، وخيالات بحر بريطانيا التي تعود لي وترحل في كل فترة ليستْ لي، وهذا الخليجُ يبقى الخليجَ لا أكثر.
ذاك البحر، وتلك الرمال هي لي..

وفي فترة التغيرات قررتُ البقاء مع الرحيل، لأن الثبات غير موجود، ولا باقٍ إياه..
ولأن البقاء سؤال الاستمرار، ولكن هل هو خارج الزمن؟

سؤال البقاء يقف هناك حيثُ وقفنا، حيثُ قررَ الوعي أن يتوقف بنا وحيث قرر الزمن أن يقول سأكون فلن تكونوا..
هناك لا نربي الأمل، ولا نربي القيامة.. هناك تصبحُ جميع المفاهيم هي السراب، هي السراب المطلق، وتتحول الحياةُ فجأة لدوامةِ أرقامٍ لا تنتهي..
قرار الزمن بالاستمرار هو قرارهُ لي بأن أتوقف بالمكانِ هناك ويستمر هوَ، هوَ الزمن

أن يستمر الزمن فأقررُ أنا، حبيبةُ الأماكنِ والمدن، أن ألغيَ المكان كلّه لإني لا أجدُ الزمان فيه..
أن ألغي كل نخزةٍ بالمكان لأتوقف هناك في تلك اللحظات وفي ذلك الزمن
في الزمن الذي عيّا أن يمشي ولو كسلحفاة
في الزمن الذي قررَ أن يلغي كلّ ما كان قبله وكلّ ما سيأتي بعده..

أن يتوقف كلّما قررتُ أنا السعي، فيظهرُ أني لن أبرحَ السعي.. السعي إليكم كما يقول فواز حداد..
لم يتوقف الزمن وقتما بدأنا، ولا وقت للنهاية، فالزمن لا يسمح والنهاية لن تركض لي..
وسأتوقف دائماً عند أغنية على الأغلب لم تكن مقصودة، أو كانت ولكن لم أكن أنا أنا


Friday, March 16, 2018

نطرزُ أنفسنا


نطرزُ أنفسنا



مما لا نحكيهِ كثيراً أننا نطرزُ أنفسنا عبرَ الأماكن والأشخاص الذين يمرون بنا.. حتى لو توقفنا عن فعل التطريز الفعلي في أيامنا..
عندما نجلسُ لساعات في سمرٍ وضحك فنحن ندركُ أجزاءً من ذواتنا اختفت بضيقِ وقتنا في الحديث مع الذات، وندركُ مجدداً في حوارٍ تلو الآخر أننا نحتاج جلساتٍ لا تنتهي ولا وقتَ لها لنعرفَ التفاصيل الموجودة بداخلنا بعيداً عما يدورُ حولنا..
في جلساتنا الكثيرة نعيدُ ونكرر، تجاربنا بالأماكن وشخوصها وتفاصيلها اليومية -حتى ما نظنهُ تافهاً - هي من معرفتنا وتعريفنا لمفهوم الوطن، ولا أدري إن كانت ترجمتنا لل 
home واقعيةً فعلاً للوطن.
على إشكالية فكرة أننا لا نعرفُ أو ندركُ ذاتنا إلا من خلال الآخر، إلا أنها جزءٌ أكيد من فِهمنا لما يجري حولنا.. من معرفتنا بما كان..
ألوانٌ ترابية أصررتُ أنها تداخلت مع خيوط الشمس أو خيوط الذهب هي ما أفهمه في كل لوحةٍ ننتجها؛ نصاً أو كلمً أو حتى ورقةً ببهاء لا داعي لها على حائط بائس..
خربشاتٌ خربشات.. وإدراكٌ فجائي لمتاهات الدواخل...
فكل غياب يحملُ حضوراً لا يُمحى، ويحملُ نصاً جديداً فييَّ ..
بين هذه الخيوط، خيوط الذاكرة والفقد والغياب، لا أنسى أبداً أن كلّ هبوطٍ للذاكرة ما هو إلا حالةُ صعود، وأن الذاكرة هي حالةٌ انتقائية جداً.. تتذكرُ لَمسة يدٍ عابرة في لحظاتٍ لم تكن متوقعة، في حين تنسى ليالٍ من الأحداث أحياناً..
وبين انتقائية ذاكرتنا هذه، تتذكرُ فجأة درسَ سباحة في الصفِ الأول، وتتذكرهُ فقط لأنه عكسَ ما عشتهُ لاحقاً بعدها، فيصبحُ ما كان روتيناً من طفولتك في فترةٍ ما ليكونَ شكلاً عجائبياً أمام مدارس أخرى جربتها.
أن تجرّب كثيراً يعني أن تقرر ذاكرتك أن تنتقي منكَ ما تريد، معناها أن تختارَ ذاكرتك ماذا تأخذ من كل هذه التجارب وما تترك.
أن تتحدث عن هذه التجارب ففجأة تخطرُ ببالك أفكار، وتستطيعُ أن تتبعَ خطَ تفكيرك فيها، يعني أن تبدأ بإدراك أصل الأفكار التي تعيشها لاحقاً.

لا أنسى، ولن أنسى، ولا يمكن ليومٍ أن أنسى كيف كانت فقرة القصة الصباحية اليومية، التي نجلسُ جميعاً فيها على الأرض كل يوم قبل أن نبدأ دراستنا في الابتدائية هي سببُ إدراكي لأن القصّ والقصص هي أساسُ الوجود، هيَ أساس وجودنا. وأننا بالقصص نسعدُ كثيراً كثيراً، أكثر مما كنا نريد. وأننا لولا القصص لن نبقى أحياء. 
هي ذاتها التي جعلتني أدركُ أن الحبَ الذي لا يعرفُ أن يقصّ القصص علي، وأن الحب والصداقة التي لا تعرفُ أن تتبعَ معي قصصاً عجائبية لا أساس لها، يعني أن لا مكانَ لوجودها في حياتي.
هي ذاتها التي جعلتني أدركُ أن كل كلمة أكتبها، ولو في ورقةٍ أكاديمية مملة، لو لم تكن قصة فهي لن تكون.
وأن كلّ ذهول هو ابن هذا الخيال، ابن القصص التي تعلّمَ عقلي ألا يمشي دونها، وألا يتتبعَ يومه دونَ القص.

أن تطرز، أن ترسم، أن تخربشَ الكلمات متتالية دونَ أي معنى ممكن، يعني أن تبدأ كلّ يوم بقصة جديدة، وأنكَ مع كل التعب الذي نهشكَ من الداخل، أنتَ تدركُ أنك تعيشُ قصةً جديدة. أن كلّ حلقة من "تلفزيون الواقع" الذي نعيشه كلّ يوم، هو جزءٌ من قصةٍ كبيرة تكون واحدةً من قصصِ حياتك هذه، ولربما قصة ضمن مجموعة القصص التي ستعيشها روحك وهي تتنقل بين الحيوات وبين الأفراد، وأن تقتنعَ فجأة بأنك وإن كنتَ شجرة ذات يوم، ستكون شجرةً ضخمة تمدُ حتى جذوعها تحت الأرض قبل فوقها لتكونَ قريباً من الأشجار الأخرى، يعني أنكَ مجدداً تريدُ أن تعرفَ وتكون القصص التي يمكن أن تكون.
أنكَ مجدداً ولألف مرة تعرفُ نفسكَ والآخرين، وحتى الأشجار الأخرى، لتعيشَ قصصاً وقصص، ولتعرفَ أنكَ كلما طرزت حرفاً تغزلُ بداخلك أرضاً جديدة لتكونَ قصةً أكبر، أعمق، أغرب.. القصصُ والقص.

قُصّ عليي كل يوم قصةً جديدة، منكَ، من السابق ومن اللاحق، ومما لا يمكنُ أن يكون.. قصّ عليي كثيراً فأحبكَ أكثر كيفما كنت، حتى لو كنتَ نصاً أقرأوه في موقعٍ بائس.

هذه القصص هي البدايات التي نختارها نحن فنخوضُ فيها وهي جزءٌ من البداياتِ الكثيرة الكثيرة.. من القصص العجيبة التي لا تنتهي بانتهاء أي نص، فلا نص ينتهي، وشكراً لأجدادٍ اخترعوا الكتابة والطابعة والانترنت، لنشفي غليل بحثٍ عن القصص والنصوص الجميلة التي لا تنتهي.

قُص. 
- آخر أيام الدوحة العجيبة.





Saturday, February 10, 2018

تحملُ فلسطيناً وتجري


تحملُ فلسطيناً وتجري

ولا تحملُ فيكَ إلا فلسطيناً وتمضي. لا تحملُ في طياتِ أيامك إلا فلسطيناً تمشي حوالها داخلها وخارجها، في الشتات وفي الأرض المحتلة، في تذكرِ الخطوط والداخل والخارج، وتتحول فلسطين لك لتمشي فيها.
حالةٌ مركبة لا تفهمُها بداخلك.. لا تفهمُ ما الذي يجري، يجري ويركضُ بكَ وحولك. وتستغربُ ذاتك فيها، تستغربُ تعاطيكَ معها بهذا الشكل. لا تستغربُ كل مَن قرر تزويج نفسه لها، ولا تستغربُ ذاتك أنكَ تزوجتها في حالةِ لا وعي.
تسألُ كثيراً هل هي تربية أم بيئة أم بعدٌ أو قرب فرضَ بداخلكَ وجودها.
تستغربُ تعاطيكَ معها، وتبقى هي البوصلة، بعيداً عن خلافاتكَ مع جميع تعريفات الفلسطيني التي تعبَ شعبها وغير شعبها في تعريفها. تعبَ كثيرون في فِهم معنى الفلسطيني وتلعنُ ألفَ تعريفٍ وضعوه وفرضوه عليك، ولكن ترفضُ بكل ما في داخلك تعريف نفسك بعيداً عنها.
ترفضُ تعريفاتٍ فرضت عليك من حماس وفتح وجبهات، وترفضُ حتى تعريفات المستقلين لهذه الهوية. ترفضُ أفكاراً كثيرة تمحورت حولها، وتتفاجئ بنفسك حتى عندما تعرِّفُ نفسك بعيداً عنها فأنت تدور بداخلها.
حتى في الخارج، حتى في كل مكان.
رومنسية شديدة إيه؟
تدورُ وتدور فتكتشفُ نفسك ترومُ في أفكارها، اغانيها.. بعيداً عن كل مرة قررتَ العملَ خارجها فتدور بداخلها..
تدورُ وتدور.. وتجدُ نفسكَ فيها عالقاً لا تخرج.. عالقاً وسعيداً بها..
تدورُ حولها وفيها بما فيها، بغنىً ثقافي يعطيك مواداً تنتجها لسنواتٍ كثيرة ستأتي، وتتفاجئ كثيراً من نفسك في لحظاتٍ قررتَ فيها الرحيل عنها أنكَ فيها مجدداً.
سرٌ عجيب لتعرِّفَ وطناً فتحتار، وتجدَ يويا فجأة وقصص الجنوب والشمال وجمال البحر تطغى عليكَ فجأة..
وفي زلةِ لسان كل فترةٍ والأخرى تجدُ نفسك تقول "تصبحون على وطن"، وتسألُ نفسكَ كما قال "ما هو الوطن يا صفية.. هو ألا يحدث كل هذا"..

https://soundcloud.com/madridista-najlaa2/63gerwfgkwmx

Saturday, January 6, 2018

في احتفالنا وسطَ اللاشيء


في سبيلِ الكثير من الصور التي التقطت هذا العام مقابل المشاعر الأكثر زخماً، تلك التي لم نعد نستطيعُ أن نحسَّ بها وأخرى لم نعد ندركُ أنفسنا فيها، في سبيل براعمَ تنمو وسط اللاشيء ببعض النطرات. أضواء ذيل سنة 2017 كانت بعيدةً قريبة، كنا وسط اللامكان وسطَ الصحراء، كانت في سبيلِ الجديد والمجهول الذي نرمي نحوه في هذا الوقتِ المقبل.
في التساؤل الذي ينتهي لماذا نشعرُ أم لا نشعر، وفي نهاية النهار لا طلبَ إلا للمغفرةِ من الأحباء، لا طلب إلا  أن يكونوا بخير ويعذرونا على الرسائل المتأخرة كثيراً والأوقات المزدحمة. لا طلبِ للداخلِ إلا بالهدوء، بالهدوء وبعض التيه، فهناك من يطلبُ التيه علّه يجدُ الما-بعد، علّها تنكشفُ مجدداً حُجبٌ لم نكن ندركها، ولعلَّ الضياع يشقُ طريقاً جديدة لم نُهيأ لها من قبل. 
أضواء رأس سنة 2018 في احتفالنا الصحراوي الجميل، احتفالنا وسط اللاشيء واللامكان، احتفالٌ لكلِ بعيدٍ قريب وسط شموعٍ ووسط القمر. 
6/1/2018
2017-2018
The Lights, the lights i notice and feel that warthm. That unexpected moment you held me in. We all need to be held close my dear, we need to be felt and lived, we need to be close. How lucky we are to find the right hugs and people. How lucky we are when we start exploring the souls that surround us. How lucky we are when we start developing our new selves.
Never thought we could change in a day or two, or that I would take decisions based on 51% instead of sticking to what looks appropriate for the 49%. Getting yourself from the clear  road into the desert. Into creating your own loss, cayos or  feelings.
في سبيل الكثير الكثير. في سبيل اكتشاف ما تاه من المراهقة ومن الذات ومما كان يمكن أن يكون بقليلٍ من عدم الوعي.
كم هذا الوعي لعنة، كم الوعي بالذات وبأهمية أدق التفاصيل لعنة. كم يمسكنا الوعي بالكلمة التي سنقولها عن القول والفعل، وكم يجعلنا نهربُ من أشكال المواجهةِ المتعددة. كم يجعلنا نخافُ أنفسنا لأننا لم نعرفها جيداً، أو لأننا ظننا أننا نعرفها أكثر من اللازم واتضحَ السراب. 
كم كانت ضوء وكم بقيت عتمة.
كيفَ وصلوا للطريقِ الذي كنتُ أحقَّ بنفسي أن أعبره، وكم أخاف الطرق وأخافُ الخوف.
خوف الخوف. خوفُ الخوف من إنتاج الذات لشبكاتٍ معقدة من كل شيء.
خوف الخوف متعبٌ يا عزيزي، وخوفُ ضجة تبرقُ للحظة وتخمد وتجبرُ نفسكَ بأن تتحكم فيه، حتى لا تصلَ لمجهول.
خوفُ الإنتاج أو قِصره، وخوفُ الوقت.
حالةٌ مركبة من كل شيء، ومن اللاشيء.

7/1/2018

هوامش عن الموت 1

متى نعلم الناس بتلك الأخبار التي تزعجهم؟ والتي إن عرفوها لا يعودون لحظة للخلف. متى نقرر كيف نخبر الناس ما يؤلمهم أو يفرحهم، تلك الأخبار التي...