متى نعلم الناس بتلك الأخبار التي تزعجهم؟ والتي إن عرفوها لا يعودون لحظة للخلف. متى نقرر كيف نخبر الناس ما يؤلمهم أو يفرحهم، تلك الأخبار التي تقتطع من العمر لحظات وسنوات فيما بعد كالولادة والموت والمصائب؟ في كل مرة أجبر أن أخبر أحدهم بخبر مؤلم أصدم، وفي أول مرة اضطررت أن أحكي فيها خبر الموت لأحدهم كان الشعور غريبًا، أنا التي نشأت بمعزل عن الموت وأبعدت نفسي عنه عمدًا. فعلى كل حبي وفضولي الأبدي لزيارة المقابر والاطلاع على شواهدها، إلا أنني ما زلت غريبة عن الموت.
في تلك المرة، كان الوضع غريبًا وصعبًا، اضطررت على الاتصال به لإخباره بموت والده، وكأنني بمعزل كليًا عن الخبر. وتحولت فجأة لإخبار وضرورة اتخاذ بعض الخطوات لأجل "إتمام الموت" واللوجستيات المطلوبة، قبل أن أشعر بذلك الموت بحد ذاته. بعد مرة أصبح الموضوع أصعب وأغرب، كيف أخبر الناس القريبين من الميت بموته، كيف أخبر أصدقائي بموت صديقي؟ كيف أكون أنا من أنقل هكذا خبر على الرغم من إبعادي لنفسي عن كل لحظات الموت القريبة مني، بعزل نفسي عن الذهاب للجنازات والدفن والعزاء، وأراقب من بعيد جدًا ماذا يحدث. أسأل وأستفسر وأطمئن على الأحياء الذين يؤلمهم الموت لا أكثر: "فالموت يوجع الأحياء".
ما زلت لا أفهم الموت ولا أستوعبه، هو إلى الآن غياب حبيب وبعده، هو ألا نستطيع التواصل معه بعدها، هو أن يبتعد ويعتزل ويعزل نفسه (وإن كانت بإرادة دنيوية وليست بقرار شخصي). هذا الابتعاد هو ألا نستطيع التواصل معه بعدها، هو أن يبتعد لدرجة أن التواصل يكون في الأحلام فقط، لا لأنهم يزوروننا في الأحلام، بل لأن عقلنا يقوم باستعادة الذكريات، أو بالأحرى يقوم العقل بترجمة الاشتياق في اللاوعي ليظهرهم لنا لا أكثر.
ضمن حالة عدم فهمي للموت أذهب للقبور، وأعتبرها زيارة للقبر كما يعتبرها كثيرون. ضمن هذه الحالة أحب زيارة المقابر، تغريني الشواهد وطرق التنظيم وكيف يصبح الموت منظمًا أو مبعثرًا عشوائيًا حسب المسؤولين عن المقبرة. ومن الملفت أشكال الدفن والقبور، وجود الشواهد من عدمها، فكرة أن الجسد يتحلل فعليًا بعد سنوات بغض النظر عن فكرة عدم تحلل بعضها أو غيره. فالأرض تنقلب بعد سنوات وتدفن فيها أجساد جديدة أو تبقى إلى حين أن يأتي شعوب لا تؤمن بعدم تحلل بعض الجثث فتقلبها، أو تقوم الأرض بالانقلاب على نفسها وبلع ما تحويه من أجساد وغيرها.
يموت من نعرفهم فنفقدهم، نفقد تواصلنا الجسدي والفيزيائي معهم، نفقد ما يحملونه من ذاكرة يسردونها علينا في حياتنا اليومية، ونفقد خطواتهم التي تجمع أو تفرق آخرين، ولمستهم في حياتنا والتي كثيرًا ما تحتوي الكثير من المشاكل المبطنة. يموتون، فنفقدهم، ولا يبقى هناك "طعم" لرؤيتهم بعد الموت، ولا لجنازاتهم -إلا في حالة الشهداء لكونها فعلًا وطنيًا بحتًا- ولا لعزاءتهم التي نعزي فيها أنفسنا بفقدهم لا أكثر.
نفقد الموتى لنشعر بالألم لغيابهم عنا، لنشعر بالألم لكونهم لم يعودوا موجودين، نفقدهم لنشعر بفراغ حتى لو كانوا بعيدين كل البعد عن يومنا. نفقد الموتى فنعزني أنفسنا بفعل العزاء الجماعي لألا نكون وحيدين في تلك اللحظة. نفقدهم ونفتقدهم ولكنهم يمضون، إلى أين؟
يمضون إلى مجهول مهما درسناه فهو عالم آخر، إن كان سكينة أو جنة أو عذاب أو غيرها، فلا يهم. لا يهم. لا يهمني ما يأتي بعد لهم أو لي، لربما تتناسخ أرواحهم وتولد من جديد، لربما ينتقلون لحالة أخرى كشجر وحجر وطير وسمك، لربما يتحللون ويذهبون دون رجعة. لا يهم. لا يهم الما بعد للأموات فهذا شأنهم وشأن كل منا عندما ينتقل للحالة التالية. ولكن المهم هو كيف نشعر، كيف نحكيهم بعد غيابهم، بعد أن نفتقد لمستهم في حياتنا اليومية.
الشهداء حالة مختلفة، وبكوني فلسطينية، فمن حقي أن أحكي قليلًا. من حقي أن أقول أن الجنازات الوحيدة التي حضرتها شخصيًا كانت أولها لشهداء، في منظر مهيب. من المهيب أن ترى مئات وآلاف الناس مجتمعين لأجل جنازة شهيد، قبل أن ينقل الجسد إلى مقر آخر يزورونه فيه، قبل أن يصبح الجسد حالة وفعلًا وطنيًا. فالشهداء لا يموتون الآن، لا يموتون إلا بعد انتقال الأزمان واختلاف الشعوب. لربما تختلف مكانة الشهداء بعد اندثار الشعب الموجود كالأنباط والفراعنة وغيرهم. وقتها ينتقل الشهداء ويندثرون فحسب.
الذهاب لجنازة الشهيد فعل وطني، فعل تأكيدي على وجودنا فلسطينيًا، على تآزرنا، على اعتراض الشعب الفلسطيني المستعمَر على استعماره وسلب أرضه. وموت الشهيد ليس كأي موت، ليس مشابهًا لأي شيء. موت الشهيد حالة وطنية. تآرزنا مع "رجعة الخي" مختلفة عن كل موت آخر، وكل شيء آخر في حالات الموت.
الموت حقيقة ثابتة، والغياب حقيقة أكثر صلابة، هي ما يؤلم الأحياء ويوجعهم ويؤذيهم. انعدام قدرتهم الذاتية على الحديث والتسامر والحياة مع الميت، وألم الموت فعل أناني، فعل يخص الفرد المتألم قبل أن يخص الميت. فهم انعكاساتنا، إحساسنا بوجودهم أمان أو قلق، والموت يليه عزاؤنا لأنفسنا عما كان، عن لحظات الحياة التي كنا سنستطيع استغلالها، عن لحظات كنا سنستطيع فيها زيارة هذا الميت البعيد أو معرفة معلومات منه أو أخذ رأيه في أي شيء. الموت يؤلم الأحياء كما قالها درويش.