عن عطاياهم الكثيرة
في أسئلة تتعدد لدى جميع محبينا، وأصدقائنا، وأولئك ممن نضعهم في
دوائر رمادية لا هي صداقة ولا هي معرفة، إلا أني أعرف أهمية الأصدقاء، أصدقاء
العمر.
على رغم ما يسميه كثر حولي بنضج ولكن مع عمرٍ صغير إلا أنني، كما أنا وكنت دوماً، أؤمن بالأصدقاء وبصدقهم، بالمناسبة أعتقد أن الأصدقاء جاءت من الصدق. صدق التجارب وأهمية السابقين الأولين، أولئك الذي نمضي برفقتهم عمراً وأعماراً صغيرةً بعثرناها في حكايانا الكثيرة التي ضاعت في كلامنا الممتد.
أؤلئك الذين نشعر بهم رغم وحشةٍ تسكننا جميعاً، وألمٍ نعيشه جميعاً بشكلٍ متوازٍ، ولو نظرنا له بعد زمنٍ لربما لا يعنينا، ولكنه حَفَر فينا تفاصيلنا وتفاصيلنا معهم.
عطايا الأصدقاء تختلف أشكالهم، أولئك الذين يحبوننا بشكلٍ لا ينتهي، ونعرف محبتهم التي لا تنتهبي، وأولئك الذين نشعر تجاههم بتأنيب الضمير، لا لتقصيرنا معهم، بل لأننا نعرف أننا لن نستطيع حبهم بنفس القدر أو الشعور، ولن نستطيع أن نعطيهم ما يعطوننا إياه من محبة، حتى على مستوى المشاعر.
أولئك الذين يقدسوننا متعبين، متعبون ومتعبين. نحبهم حباً جماً لا ينتهي، ولكن أحزن، لأن حبي مهما تناهى لن يصل ربع مقدار حبهم وما يقدمونه من مشاعر ومخاطر لنا.
أولئك الذين يقدمون لنا أرواحهم على شكل مخاطر بسيطة وصغيرة وممتدة، ممتدة لا نصل لأطرافها، فأنا على الشاطئ أبقى، أبقى على الشاطئ لا أغوص وأنا أعرف ما أنا.
أعرفُ أن محبتهم تقاس بالمشاعر، والمشاعر لربما لا تقاس. لا تقاس بكل ما نقدمه لهم وتجاههم.
أعرفُ أني عندما سأعود لأرى هذا النص، كما غيره الكثير، سأعود وأنظر لتسلسل نظرتي للأصدقاء على مدى هذا العمر القصير الطويل المنهك. عمري المنهِك والمنهَك لا لشيء، بل لوجودي فيه فحسب.
من الجميل عندما ندرك أن دائرة الراحة تتمدد وتتوسع طوال العمر، وتتمدد بقدر امتدادهم المختلف فيي. هذا الامتداد الذي يصبح متعِباً عندما لا نقدر على مجاراته، ولا مجاراة أعشاره.
أذكر ليلةً مهمة، قررت فيها أن أصارح أحدهم بأنه يكفي قدر حبك لي، يكفيني هذا القدر، لا لأنه كثيرٌ كثير، ولا لأنه مخفوف فعلاً بمخاطر، بل لأنني لن أستطيع يوماً الوصول له، ولا لجزءٍ منه. وتؤلم جداً لحظات اعترافهم بأننا نضحي لأجلكم كثيراً، أكثر مما تعرفونه.
هي العبارات المحفوفة بالصبر والصبار، العبارات التي تكون وكأنها أسنان شوكٍ ينخز، وكلماتٌ لربما تنسيني إياها ذاكرتي المتاهلكة، تلك الذاكرة التي ستسقط قريباً أكثر مما هي تتلاشى، حتى يأتي مكانها الفراغ.
ها هي الذاكرة تمحى وتتلاشى، وها أنا أنسى قصصي المؤسسة، لولا ذاكرتهم الجميلة التي لا تنسى. لولا ذاكرة أولئك السابقين الأولين الذين لا ينسون شيئاً أبداً، ولا ينسون أي تفاصيل عنا وفينا.
أعجبني صديقٌ قريب بعيد، أعجبني كيف حولني لمدينة ولحالة، ولحالةٍ لو عرفها أفلاطون لربما لن يعرف الكتابة عنها، أو لربما ألَّفَ عنها شيئاً جديداً دون أن يصل لشيء، فالطريق قربي لا توصل أحداً لشيءٍ مهما حاولت.
نصٌ متعبٌ وممتلئ بالأنانية، أليس كذلك؟
يدعونني جميعاً دون استثناء إلى الأنانية، إلى تذكر نفسي قليلاً، إلا عندما يخصهم الأمر ويخص الوقت الذي أقضيه معهم، وهم كثر، وأحباب القلب كثار. أحباب قلبي كثر، وأصحاب عمري يمتدون قليلاً قليلاً وكثيراً، كثرٌ بالعدد وكثر على الحب. هل يوجد حدٌ لحب الأصدقاء؟
في حبه لم أجد حداً أبداً، لم أتوقع أن العقل فالقلب قادرون على المشاعر بهذا القدر، فلم أتوقع مقدرتي على استيعاب الحب واستوعبته، أو أظن أني استوعبته.
تشربت فيه تفاصيله الجميلة الكثيرة الغنية، تلك التفاصيل التي تجعلني أعرف يقيناً قدره، وتلك التفاصيل التي تجعلني أعرف جيداً مقداره، تلك التفاصيل التي تجعلني أتأكد في كل مرة أن شأنه سيكون كبيراً كبيراً وعالياً كما أرجوه، وأن تفاصيله هي التي أتعبتني يوماً، لن تكون هباءً أبداً.
تفاصيله تفاصيل حب، حب هكذا، دون تعريف أو حتى دون ألف التعريف. تفاصيل متعِبة متعِبة، تلك التفاصيل التي كنتُ أدركها جيداً، والتي أعرف فيها ابتسامة وجهه، وسعادته بوجودِ من يحب. تفاصيله التي أعرف أنها لن تكون لي الآن، ولربما لن تكون في أي يوم، قريب أو بعيد.
تفاصيل كثيرة، أرجو ألا تنساها ذاكرتي المتعبة المتآكِلة، والتي رجوت أن أنساها وأتفاداها كثيراً ولن أتفاداها. لربما بعد سنين، ولكن السنين الماضية لم تكن كافية يا عزيز.
لم تكن التفاصيل أبداً كافية لنسايتك عمراً، يا عمراً.
تعود تفاصيل العمر والإيحاء لتتدفق هنا، وتتدفق بعمق فعلاً دون سابق وعي أو إنذار بها، وكم أتعبتني بتفاصيل العمر يا عمراً.
تعود تفاصيل الحياة والوحي لتتدفق هنا، قرب الأرض المقدسة، ولربما أخشى ما أخشاه بأن تتدفق عمراً جديداً بعد الوصول للأرض المقدسة ذاتها. ستكون عمراً جديداً متعباً، الله يستر منه.
نعود للأصدقاء، عطاياهم الكثيرة وحبهم الممتد المتدفق. أولئك الذي يقدسوننا كثر، بإحساسنا بهم ودون إحساس أيضاً. أولئك الذين لن يكفينا عمرنا على أن نردهم بعض حبهم، وبعض عطاياهم المتدفقة في حقول الشوك والصبار، أولئك الذين يحبوننا أكثر من طاقتنا بكثير.
أولئك، أحبهم، أحب عطاياهم، وأحب حبهم، مع أني أعرف أني لن أصل يوماً لربعه أو لأجزاء منه أبداً. أولئك الذين مهما دارت بنا الأيام كتفٌ صلبٌ نتكئ عليه في قسوة الأيام وقسوة الوعي. أولئك الذين يتحملون منا ما لا نظن أننا نعطيه ونفعله، أولئك الصريحون المحبون والحنونون، الحنية. الحنية التي لا نستطيع عليها، فأنا قاسية، يا نصاً مفرطاً فييَّ كثيراً.
شكراً لكم، لحبكم اللا نهائي، لعطائكم المستمر والعظيم. بعضهم عظماء، عظماء جداً يتحملون تعباً لا نتحمله بداخلنا أولئك الذين نحبهم كثيراً كثيراً.
نحبهم، ولن نصل لربع حبهم فينا.
ومجدداً، لكَ يا عمراً كُتِب فييَّ ولا يمحى لسبب، لي فيك حب.
عمّان
15-7-2019
No comments:
Post a Comment