Tuesday, November 13, 2018

ما مدى الذاكرة الفردية


ما مدى الذاكرة الفردية
  
هو الاستحضار والزمان والمكان المتعب.
هو بذاته تعب الذاكرة وهي تلملم نفسها، رافضةً النسيان، أو أي نسيان بالمناسبة.
هو بذاته ليسَ تعب سنين، بل تعب الذاكرة في سنة أكثر من كل السنين.

تعب الذاكرة ليسَ بعدم فقدانها، أو بذاكرة السمكة المستمرة. تعب الذاكرة بأن يتجسد كلّ ما هو موجود بكل ما هو جزئياً غائب، ويجب أن يغيب مع الأيام. أذكر هذا العام كيفَ أعدت قراءة صفحاتٍ وصفحات لا تحكي إلا عن الذاكرة، عن أصنام الذاكرة في الأفراد، في المخيلة الجمعية والفردية. وكيفَ تعلق الذاكرة لألا تتحول بما يحيطها، فتعلق فيها شذرات وأطراف من الذاكرة المؤكدة، عبر نظام الدولة الاستبدادية، التي وحتى عندما تسمح بالإبداع والفكر الجديد، فهي لا توظفه أو تستخدمه إلا في حالات استدعاءٍ لما يفيدها، لِما يعزز سلطتها ويعزز موقعها ومكانتها. عندما تختار الدولة أن تفرضَ علينا ما يعزز سرديتها المستمرة، فتسمي الشوارع والأماكن والنصبَ التذكارية بما يخدمها فحسب. عندما تفرض علينا ما يجب أن نقوم باستدعائه مجدداً وتكراراً كما تريد الدولة، ترفض هندسةً مجتمعية موحدة للذاكرة، تفرضُ علينا كيف نهندس بناء المقالات والكتب لتستدعي بدايةً ما ترغب به الدولة، وما ترغب الدولة بأن نبدأ به فتتعب الكلمات وتزيد فلا نذكر المخبأ والموجود بين الأحجار حولنا.

عندما تفرضُ الدولة نصباً تذكارياً محدد المعالم والحمولة الثقافية وسط الدولة، ليكون مركز الحديث عن كل ما يخص المكان، وعن تفاعلاتنا اليومية فيه، فهي تفرض محو المدينة والمكان ككل إلا كما ترغب هي. تفرضُ أن نتذكرَ سعادةً تريدُ بثها في هذا النُصب عوضاً عن شهداء وجرحى وأسرى كانوا هنا في نفس النصب والمكان. المكان كمكاننا نحن، مَن نتفاعل بداخله ونحاولُ بناءه كل يوم.

عندما تفرضُ الدولة استحضار ذاكرةٍ واحدة، هي لا تمحو فقط ذاكرة المكان ككل، وتمحو ذاكرة الأشخاص الذين حاولوا تشكيل هذا المكان يوماً ما بطريقةٍ مختلفة. تمحو الزمان وتوقفه لألا يتحرك مجدداً سوى بأمرها وبإرادتها
تقرر الدولة بإبقاء نصبٍ تاريخي قديم وإيقاف الزمن في تلك اللحظة أن تُبقي هيمنة النصب على أفرادها، على مَن لن يخرجوا مما أمامهم للتفكير بما وراء المكان، بكيف كان ويكون. وأنا لا أطلبُ محو التاريخ أو إزالته، ولا أطالبُ بوضعِ الجديد بشكلٍ مستمر، لأن الدولة حتى لو قررت وضعَ أي نُصبٍ جديد، فهي ستقرر الشكل والمضمون للجديد الذي سيهيمنُ مجدداً على مَن يمرون بجانبه كل يوم، ومَن سيكتبون عنه مراراً وتكراراً.

في هندسةِ المكان، قررت الدولة أن تهيمنَ على الهندسة الاجتماعية عبر المعمار المفروض، والشوارع التي يُسمح للأفراد بالمرور فيها مشياً أو بالسيارات فقط، أو تلك الشوارع التي عادةً ما تُغلقها لمرور أهم الشخصيات ومواكبهم، فيتجنبها الشعب لازدحامها وتوقفها.

في بناء الذاكرة تهندس الدولة أفرادها على استحضار ما ترغب به، وعلى نسيان ما لا يُسمح بالحديث عنه، أو حتى تخفيض أصواتهم خوفاً من الجدران التي تَسمع. ولكن ماذا يحدث بداخلنا عندما نقرر الذاكرة وننساها، وهل الذاكرة الفردية الطوعية تستطيع الخروج من الهندسة الأكبر للدولة؟ هل تستطيع الذاكرة الداخلية لدى الفرد الخروج من ربط الشوارع والمقاهي والمنتديات عن تجاربها اليومية التفصيلية، تلك الشوارع التي هُندِست من الخارج نحو توجيهٍ محدد؛ الجهات المخفية التي يُسمح فيها بما لا يُسمح في الفضاء العام الأعم، الفضاء العام الأكثر خصوصية. ما مدى انعكاس حريتنا داخل ما تستحضره أذهاننا في لحظات الوَجد والألم والقسوة، وكيف نتخلص من هيمنة الذاكرة الأعلى بداخلنا، قبل التخلص من هيمنة الذاكرة الجمعية التي تُفرض قسراً على الجميع.



No comments:

Post a Comment

هوامش عن الموت 1

متى نعلم الناس بتلك الأخبار التي تزعجهم؟ والتي إن عرفوها لا يعودون لحظة للخلف. متى نقرر كيف نخبر الناس ما يؤلمهم أو يفرحهم، تلك الأخبار التي...