عن فقاعة رام الله
عشتُ في رام الله أربع سنوات كانت كفيلة بأن تجعلها تعيش فيي عمراً طويلاً، وتصبح كنزاً أبحث عن آخره، وبقدر ما قد تكون هذه الجملة كيلشيه سمعناه بقدر ما هي تعبر عني.
كتبتُ أطروحتي الماجستير حول "رام الله الفقاعة"، وتشديدي فيها كان لدراسة تشكيل الأفراد للمدينة وتناقضاتها، ولا ينبع هذا من وصفي الشخصي لها بالفقاعة، بل باستنادي على مجموعة كُتاب ومحللين ودارسين وسكان المدينة ذاتها، فكلنا "أهل رام الله".
كتبتُ عن رام الله كما رأيتها، ودرستها كما كنتُ جزءاً فيها وكما نكون جميعاً، وسعادتي الكبيرة بعرض الأطروحة في عدة مناسبات ولم تتوقف، ولكن سعادتي بحلقات الأستاذ القدير الرائع، عمو القريب من قلبي، فتحي البرقاوي، في برنامجه ظلال في الجانب الآخر الذي يقدمهعبر إذاعة أجيال من رام الله، كانت سعادةً مختلفة.
في هذه الحلقات، التي أشار إلى أنها استندت على أطروحتي، استضاف عمو فتحي عدداً من الشخصيات الذين استندت عليهم في الأطروحة، وسألهم عن جوانب تناولتها في أطروحتي؛ قدر المكان، قدر المحبة، السكان وتغير المكان عليهم، حالة الفقاعة بحد ذاتها، والكثير الكثير.
ارتبطت هذه الأطروحة بالمكان والمدينة بذاتها، وبأشخاص هذه المدينة الذين يشكلونها، يشكلون كل ما فيها، ويشكلون تغيرها دون أن يعُد أي منا أننا من خارجها؛ نحن جميعاً أبناء هذا المكان والزمان، وربما أبناء الفقاعة أيضاً.
ولربما يتوقع الجميع أن تكون الأطروحة هجاءً وذماً في مدينتي من اسم الأطروحة، فمَن يستخدمون فكرة الفقاعة إما يؤكدونها ويستخصلون التناقضات ليدللوا على ماهية مكانهم هذا، ومن يعارضونها يعتبرونه مصطلحاً مناقضاً لجمال المكان؛ ولكنه مكاننا جميعاً.
لا تهاجمُ حلقات البرنامج، أو الفكرة والأطروحة رام الله، أو تمدح/تذم فقاعتها، هي فقط تستعرض/تدرس وتحلل وجودنا في هذا الحيز ككل، كيف نتفاعل في حياتنا اليومية مع كل مستجداتها، كيف يتماهى الحيز العام والخاص وكيف تكون العديد من التفاعلات.
لم ترتبط الأطروحة بسؤال الذاكرة بشكلٍ اعتباطي، فكل ما يقام على هذه الأرض مرتبط بسياقٍ كامل ما زال يتطور. فيؤرخُ لأول تواجدٍ في هذه المدينة (عندما كانت خربة) في العصر الحجري وصولاً إلى مرحلة الحدادين والنكبة وما تلاها، ولكن ذاكرتنا ومخيلتنا هي ما شكَّلَ مكاننا.
رام الله الفقاعة، فقاعتنا وواقعنا، هي ذاتها رام الله التي بدأت الإضاءة فيها من المنارة، والتي رقصت وسط أسودها امرأة منذ سنوات، وهي نفس النقطة التي صُفِّيَ عليها عُملاء في الانتفاضتين، هي ذاتها التي أقمنا عليها مجموعةً من المسرحيات والنشاطات الترفيهية التثقيفة، وذات النقطة التي نلقى فيها أحباءنا حتى نكمل الطريق كلما نصلُ مدينتنا. هي ذاتها اللحظة التي قررت فيها السلطات أن تجعل ذاكرتنا صنمية وتجبرنا على استعادة اللحظات التاريخية وموازين القوى بأسودها الخمس.
مكاننا، فقاعة أم لا، ودلالات الفقاعة بسلبياتها وإيجابياتها هي ما نمى سؤال الأطروحة لدي، هي ما جعلني أراجع أفكار الأطروحة مع أساتذة ومناقِشين مهمين طوال سنة كاملة، وهي ذاتها التي جعلتني أحلل أفكاراً ووقائع تحيط بالمكان، وهي ما جعل الرائع فتحي البرقاوي يقدم حلقتيه حول رام الله، وأنا أدركُ جيداً أن الفكرة لا بد راودته قبلها كثيراً.
عندما نكتب عن ذاكرتنا ومخيلتنا للمدينة، نحن نصف حالاتٍ وأفكار تولد في اللاوعي وندرك بعضها، ونعمل جاهدين في نقاشات الأفراد المطولة وكتاباتهم على تحليل أفكارنا، تحليل ما نراه عندما نمشي وسط البلد 10 دقائق كل يوم بين سرفيس وفورد، وهي ذاتها التي تولّد لدينا الأفكار. وبالبحث البسيط يُصدم الإنسان بالقدر الهائل الموجود عن المدينة من كتابات وأدبيات ونصوص ولكنها تبقى مبتورة في جزءٍ ما، تبقى فيها النقاط العمياء التي تكتمل برؤيتنا، أو بعدمها.
في رام الله لا انعدام للمخيلة (فردية أم جمعية)، لا انعدام للمكان والزمان. وحتى قرار نفي المكان من المخيلة يعني أن يعيش فيها الفرد كما يتصور أنه يريد، وأن يعيش المكان بنفيه بشكلٍ متجدد، ونفيه يوماً بعد يوم يؤكده، ولكن تلك قصة لوقتٍ آخر.
حلقات البرنامج: برنامج ظلال في الجانب الآخر، يقدمه فتحي البرقاوي، عبر إذاعة أجيال
مدينة رام الله (الجزء الأول) http://www.arn.ps/archives/218575
مدينة رام الله (الجزء الثاني) http://www.arn.ps/archives/218754
صباح الله يا رام الله
صباح الله يا رام الله
No comments:
Post a Comment