Saturday, December 17, 2016

لا تصدقوا المدن التي لا شمسَ لها، ولا تعتذرو للتي نحتتكم

لا تصدقوا المدن التي لا شمسَ لها، ولا تعتذوا للتي نحتتكم

كم من الغريب أن توقظ شمسٌ مدينةً لا تعترفُ فيها، فترى الشمس لا تعترفُ بزرقةِ مائها وبُنيانها، وبهذا فإن أحدهم هو دخيلٌ على العالمِ إجمالاً. فإذا آمنّا بوجودِ شمسٍ وقمرٍ خاصين بكل منطقةٍ، تكون هذه المدينة هي الدخيلةُ على عالمِ الأقمارِ والشموس.

سؤالنا القديم الممل، ماذا تتركُ المدن في الإنسان؟، وهو الذي لم يعتد البقاء في ضجيجٍ لا ينتهي في حيواتهِ السابقة. فالمدن الحديثة إما تُخلقُ لحياةِ الناس اليومية; من أماكن لقاء وراحة واستجمام، وإما تُصنَعُ للمباني والسيارات والآلات، وكلُ مُصممِ ظلمَ وانتصرَ لما يريد.

لشخصٍ يعشق المُدن ويفضلها ويرتاحها في زحامها، تصبح المُدن المختلفة إما ملهمةً له أو مُضرة، مضرّة لحدٍ تؤذيه أم تريحه.
في مكانٍ لا ينتهي فيه الضجيج، يجد أحدهم نفسهُ ضائعاً في الضجيج، في الصوت، غير قادرٍ على إنتاجِ ما ابغتاه من عُزلة المدينة.

سؤالنا الأحدثُ نسبياً، لماذا لا نُقدِم سوى الاعتذارات للمدن، فمقابل كل مجموعة اعتذارات أرى امتناناً وشكراً مرافقاً لاعتذارٍ جديد، لماذا لا نتوقف عن الاعتذارات لمدننا الحبيبة؟ يا أعزائي الكاتبين، لا تقدموا اعتذارات لمدنكم إن رأيتموها تتغير لشكلٍ لا تريدونه، لا تعتذروا لها بعد أن فتنتم بتناقضاتها وولادتها لشكلٍ جديد، لا تعتذروا لمدنٍ شكلتكم وشكلت كل ما في تناقضاتكم التي تصالحتموا معها الآن.
لا تعتذروا لمدنٍ وضعت جيلاً بعد جيل وفتنتم بها سابقاً. 

نعودُ للمدينةِ المسكينة التي بدأنا بها، تلك التي لا موقعَ لها مع باقي العالم. أيتها المسكينة لماذا تحاولينَ إقحامَ نفسكِ بالإجبار في سيرِ العالمِ السريع، ثم تحاولينَ العودة بنفسكِ لما قبلَ الأفكار؟ أيتها المسكينة لماذا لا تقبلين فكرة المدينة، فقد كنتِ مدينةً صغيرةً مسكينة، قررتِ بناءَ نفسكِ في وقتٍ قياسي، ثم طلبتِ من هذا البناء أن يتجانسَ مع كل ما هو ليسَ متجانسٌ فيكِ. بَنيتِ أبراجاً تحاولُ معانقةَ السماء ولكن بداخلها حاولتِ تطبيق عقلِ ما قبل العُمران المدني للمنطقة، قررتِ إنتاج أشخاصٍ يُمثلون الفكر العِلمي والحياتي والاجتماعي والفلسفي، ولكن دونَ تطويرِ أو تطبيق ما ينتجون. أنتِ تريدين أن تكوني مدينةً ضخمة لا تنام، ولكنكِ تضعينَ قيوداً كبيرة، تصممينَ نفسكِ للسيارات والآلات والأبنية لا للناس. 

أنتِ أيتها المسكينة تُخَزِنينَ الناس فيكِ ولكن لا تدعينهم يؤمنونَ للحظةِ فيكِ، وهذا الفرق الضخم بين هذه المدينةٍ السوداء التي تبني نفسها وبين مُدن السوادِ الأخرى التي تمكنت من بناءِ الانتماء واللانتماء في نفَس النفس. في هذه السوداء المسكينة أنتَ لا تظنُ للحظةٍ واحدة أنك تنتمي فيها أو لها، في مُدنِ السوادِ الأخرى أنت تُنمي الحبَ لها ولقادتها حتى عند معرفتكَ ضمنياً أنك ستطرد في أي لحظة، لكنها لَعِبَتْ لعبةً الانتماء بدهاء.
في مدينةٍ خاوية كهذه المسكينة ترى أناساً من كل الجنسيات يفتقدون التواصل، فتبني المدينةُ المسكينة، التي تحاول ألا تكون مزيفة، طبقاتٍ وهمية تقف بين الإنسان ونفسه، تجعل الشخص يُشككُ بنفسه وبما كان قيماً.

في مدينةٍ لا تنتمي لها شمسها ولا بريقَ في قمرها، تشعرُ بسعادةٍ عامرة عندما ترى مراهقين، فكأنهم مُغيبون من الصور، ترى عازبين يملأونها، أو أزواجٌ جدد أتوا للبحثِ عن السوادِ والخَضارِ، وما زالوا يُسائلونَ أنفسهم، هل نزرع الأطفال في أحشائنا وأحشاء هذه المدينة المسكينة. فأنتَ قليلاً ما ترى نساءً حوامل في هذه المدينة، إما أطفالٌ صغار أو أزواجٌ وعُزابٌ أكبر، المراهقون في الشكل والعمرِ قلّة، ولكن جزءاً لا يُستهانُ به من سُكانها وكأنما حُرِموا من مراهقتهم وأدركوها في أواخرِ العمر، وأرادوا إحياءها مجدداً.

مدينةٌ مسكينة، تحاولُ أن تكونَ مدينة دونَ أن تستطيع تقديم أشعة شمسٍ حقيقية. مدينةٌ مسكينة لم تصمم للسُكان. مدينةٌ مسكينة جعلت كلَّ من فيها يشعر وكأنه على وشكِ الرحيل، فلا يُخلِصُ في بناءِ حجرٍ واحد. 
مدينةٌ حَمّلوها أكثر مما تتحمل وهي كطفلة ساذجة، أعدموا طفولتها والقو فيها صورتهم المشوهة عن العولمة المتداخل في التراث.
مدينةٌ مسكينة لن تعتذر لأحد، ولن يلتفتَ لها أحدٌ إن وقعت. مسكينةٌ مسكينة.

نعودُ لمدينتنا الأخرى  الحبيبة أو التي يمقتها البعض، لا تَعْتَذِرْ لمدينةٍ سليمة سلمية تطورت وشَكلت في أبنائها التناقضات فالحياة، بالعكس، أشكرْها واسمحْ لها أن تكبر وتتغير وتستقر، اسمحْ لها أن تلدَ أبناء التناقضات الجديدة، كما وَلَدتكَ يوماً. اسمحْ لها أن تعبرَ عن نفسها كما تراها، لا كما تريدونها أنتم أيها الأربعينيون والخمسينيون، أنتم الذين عشتموها في شبابكم وشبابها. اتركوها وأحبوها كما كانت وتكون، فهي الحقيقة الموجودة في زمن المساكين المزيفين، هي الحقيقة التي نَحتت أرواحاً عديدة في كل من عاشها. أحِبَّها واتركها تكون كما عَهِدناها، أم العواصم.

الدوحة
17\12\2016

No comments:

Post a Comment

هوامش عن الموت 1

متى نعلم الناس بتلك الأخبار التي تزعجهم؟ والتي إن عرفوها لا يعودون لحظة للخلف. متى نقرر كيف نخبر الناس ما يؤلمهم أو يفرحهم، تلك الأخبار التي...