Saturday, September 26, 2015

كانت طبخةً هادئة

كانت طبخةً هادئة

وقيل ذات يوم أن أكبر ألماسة ستفوزُ بقلبها. لم يؤثر بها الألماس ولم يبهرها بريقه.
كانت القصة قد بدأت منذ سنوات، طفلةٌ كانت وكانَ الزمان يمضي. عرفا بعضهما بأغرب صدفة, صدفةٌ بعدَ أن كبرا تم استتفاهها، هي التي تحولت لفتاةٍ عاقلة تزنُ متغيرات حياتها بحساب، وهو الذي أصبحَ مسؤولاً عن عملٍ ودراسة في آنٍ واحد.

تلاقيا صدفةً في عدة أماكن بشكلٍ متتالٍ غريب، وفي مدينةٍ تقطعُ مبانيها السحاب لم يكن هذا شيئاً معتاداً أبداً، وفي ثالثِ يوم من العيد، بدأت الروحُ تتلعثم، مضى الوقت ولم يتحدثا إلا مع وصولِ العيدِ التالي.

حبٌ بسطَ جنحانهُ من صدفٍ متتالية، جنونٌ يا أعزاء.. 
بدأت اللقاءاتُ البسيطة في الهواءِ الطلق، خلفَ تلك الشجرة ووراءَ ذلك السور. أصبحت هي "قمر 14" فجأة! رأته لأول مرة، طويلٌ قمحيُ اللون بشعرٍ أسودَ قصير مموج.
كان ثالث أيام عيد الفطر هو أول لقاء، لم ينتج عنهُ ألفاظ، أول صدفة في سلسلةِ صدفٍ متتالية.

تخيلتهُ لأسابيع، هو أكبر منها بالتأكيد، فهو طويلٌ جداً جداً، جداً وجداً! أهو عراقي، أم فلسطيني، وإن لم يكن أحدهما فلماذا كانَ يرتدي الحطة  - الكوفية السوداء-؟! أكتافٌ عريضة تعني عمراً أكبر أيضاً.
"ما عمره؟، ما زلتُ في الرابعة عشر! ما زلتُ صغيرة، ماذا لو كان أكبر مني بكثير.. ماذا لو لم أعجبه.. ماذا لو بدوتُ بشعةً جداً عندما يقترب.. ماذا أفعل، ماذا أقول، ماذا أفعل.."

صدفةٌ ثم صدفةٌ جديدة تليها الصدف الأجدد!. ما الأمر ما القصة، كم مرة سنتلاقى حتى يتكلم.. حتى يأتي.. حب من أول نظرة؟ السذاجة.!

صدفةٌ جديدة كل أسبوعين، لم يكن يأتي للحديث، وكانت هي تضحك.. كان بطنها يتقلبُ ويتحرك، يرقصُ بداخلهِ اقزامٌ كثر. وكان كلُّ ما فيها يرتجفُ مباشرة, لشخصٍ لم تعرف عنه سوى اسمهِ الأول والذي تطابقَ مع ثلثِ أسماءِ الشبابِ في مدينتهم.
أهذا هو الحب؟ لا يا طفلتي.. هذه تقلبات أول مرة، شعورُ رهبةٍ يأتي من تجربةٍ تدق الباب.

بالرغم من أن البدايات أعطيتْ أكبرَ من حجمها، ولكن تبقى مهمة. جميلٌ إحساسُها وعدمُ نسيانها، تعطي الشعورَ بالتجددِ وبدقةِ القلب. وتملأٌ الجو بروحِ الصغرِ في السن، فيجبُ أن يبقى لديكَ دوماً ما لمْ تفعله، ما تفعلهُ لأول مرة حتى وإن أصبحَ عمركَ مئتي عام!

المهم، جاء اللقاء الخاتمُ للصدفْ والفاتحُ للقاءاتِ المتعمدة. كان التعرفُ بريئاً، صُدِمَتْ بمعرفةِ العمر المتقارب، وصُدِمَتْ لأنهما في صف دراسي واحد، بدأ الحديث واستمرَ لسنوات!
تكادُ تحلفُ أنها كانت ليالي غلفها السحر وإلا ما كانت يوماً، فلا الشخصياتُ متقاربة ولا الظروفُ منطقية ولا العمرُ كان يسمحُ لهما بالحب!

كانت اللقاءاتُ بسيطة، لم يدخلها تعقيدٌ أو إزعاج، لم يدخلها أملٌ بمستقبلٍ عامر بالأطفال، لم يكن فيها تحكمٌ أو إفراطٌ بالإزعاج، بسيطة هادئة وجميلة كانت مثلهما.
كانت تمضي أسابيع أحياناً دونَ أن يتكلما، كانت التلفونات والأحاديثُ قليلة أصلاً, لا أحدَ يعرف لماذا، ولكنها روت عطشاً لم ينتهي، ولا يمكنُ لأحدٍ أن يحزر ما الذي كانَ يجري، تفجري الأيامُ بهما. كانت علاقةً هادئة بريئة, وعندما أتى الوقت لتلويثها انتهت دونَ عناء, دونَ وجعٍ إزعاج، بقيت نقيةً صافية كما كانت.

ما الذي ميَّز لقاءتهما في العيد، لماذا العيد؟ 

كان اليوم الثالث في العيد عادةً يومَ اللقاء، هواءٌ طلق خلفَ الأعين في العادة، كان قربهما أمان، كان شعوراً غامراً بالأمن حتى دون التلامس الأكف، كانت اللقاءاتُ تتكثفُ أحياناً، وتنعدمُ في وقتٍ لاحق، وتبقى شعرةُ الود بينهما لا تنقطع، كما بقيت المعابدُ الأثرية فترةً طويلة، ثابتة دونَ سبب.

ركضت بهما السنين، شاهدوا معظم أصدقائهما يتنقلون بينَ العلاقاتِ العاطفية، وهما ثابتانِ بسيطان، رياحٌ تهبُ في مجرياتِ الدنيا، وهما كحجرانِ قديمان متجاوران لا يتحركان.

جاءَ طوفان نوح، هنا بدأت المجرياتُ تتغير،  وبدأت الرياحُ تهب من جهةٍ مختلفة. جاء موعدُ الرحيل الأعظم.

ارتحلَ الجميع واغتربوا. هي نقطةُ التحول في حياةِ جميع الناشئين، فقد التقتهُ وهي في الرابعة عشر من حياتها، قمر 14 اكتملَ به، وهو مشى فترةً من حياتهِ متأكئاً عليها، أو على الأقل هي تحبُ الإيمان بهذه الفكرة.

كانت متيمةً بهِ لدرجةٍ غريبة، لم يكن طيشاً أو تسرعاً أبداً، كانت طبخةً على نارٍ هادئة، انتهت  بشمعةٍ خفتت حتى انطفأت.

بعدَ سنواتٍ من النضج ومن الحياةِ متقاربين، بدأت تظهر عليهما علاماتُ الافتراق، بدأ الكلامُ يقل ويختلف طوعاً، واللقاءاتُ بدأ يشوبها الشك، يقلُ الترابط وبتبقى المشاعر، ولم تثبتْ لها الأيامُ سوى شيء واحد، أن الاحترامَ إذا وجدَ وبقي لا يحلُ محلهُ الحقدُ أو الكرهُ أبداً.


No comments:

Post a Comment

هوامش عن الموت 1

متى نعلم الناس بتلك الأخبار التي تزعجهم؟ والتي إن عرفوها لا يعودون لحظة للخلف. متى نقرر كيف نخبر الناس ما يؤلمهم أو يفرحهم، تلك الأخبار التي...