Friday, March 16, 2018

نطرزُ أنفسنا


نطرزُ أنفسنا



مما لا نحكيهِ كثيراً أننا نطرزُ أنفسنا عبرَ الأماكن والأشخاص الذين يمرون بنا.. حتى لو توقفنا عن فعل التطريز الفعلي في أيامنا..
عندما نجلسُ لساعات في سمرٍ وضحك فنحن ندركُ أجزاءً من ذواتنا اختفت بضيقِ وقتنا في الحديث مع الذات، وندركُ مجدداً في حوارٍ تلو الآخر أننا نحتاج جلساتٍ لا تنتهي ولا وقتَ لها لنعرفَ التفاصيل الموجودة بداخلنا بعيداً عما يدورُ حولنا..
في جلساتنا الكثيرة نعيدُ ونكرر، تجاربنا بالأماكن وشخوصها وتفاصيلها اليومية -حتى ما نظنهُ تافهاً - هي من معرفتنا وتعريفنا لمفهوم الوطن، ولا أدري إن كانت ترجمتنا لل 
home واقعيةً فعلاً للوطن.
على إشكالية فكرة أننا لا نعرفُ أو ندركُ ذاتنا إلا من خلال الآخر، إلا أنها جزءٌ أكيد من فِهمنا لما يجري حولنا.. من معرفتنا بما كان..
ألوانٌ ترابية أصررتُ أنها تداخلت مع خيوط الشمس أو خيوط الذهب هي ما أفهمه في كل لوحةٍ ننتجها؛ نصاً أو كلمً أو حتى ورقةً ببهاء لا داعي لها على حائط بائس..
خربشاتٌ خربشات.. وإدراكٌ فجائي لمتاهات الدواخل...
فكل غياب يحملُ حضوراً لا يُمحى، ويحملُ نصاً جديداً فييَّ ..
بين هذه الخيوط، خيوط الذاكرة والفقد والغياب، لا أنسى أبداً أن كلّ هبوطٍ للذاكرة ما هو إلا حالةُ صعود، وأن الذاكرة هي حالةٌ انتقائية جداً.. تتذكرُ لَمسة يدٍ عابرة في لحظاتٍ لم تكن متوقعة، في حين تنسى ليالٍ من الأحداث أحياناً..
وبين انتقائية ذاكرتنا هذه، تتذكرُ فجأة درسَ سباحة في الصفِ الأول، وتتذكرهُ فقط لأنه عكسَ ما عشتهُ لاحقاً بعدها، فيصبحُ ما كان روتيناً من طفولتك في فترةٍ ما ليكونَ شكلاً عجائبياً أمام مدارس أخرى جربتها.
أن تجرّب كثيراً يعني أن تقرر ذاكرتك أن تنتقي منكَ ما تريد، معناها أن تختارَ ذاكرتك ماذا تأخذ من كل هذه التجارب وما تترك.
أن تتحدث عن هذه التجارب ففجأة تخطرُ ببالك أفكار، وتستطيعُ أن تتبعَ خطَ تفكيرك فيها، يعني أن تبدأ بإدراك أصل الأفكار التي تعيشها لاحقاً.

لا أنسى، ولن أنسى، ولا يمكن ليومٍ أن أنسى كيف كانت فقرة القصة الصباحية اليومية، التي نجلسُ جميعاً فيها على الأرض كل يوم قبل أن نبدأ دراستنا في الابتدائية هي سببُ إدراكي لأن القصّ والقصص هي أساسُ الوجود، هيَ أساس وجودنا. وأننا بالقصص نسعدُ كثيراً كثيراً، أكثر مما كنا نريد. وأننا لولا القصص لن نبقى أحياء. 
هي ذاتها التي جعلتني أدركُ أن الحبَ الذي لا يعرفُ أن يقصّ القصص علي، وأن الحب والصداقة التي لا تعرفُ أن تتبعَ معي قصصاً عجائبية لا أساس لها، يعني أن لا مكانَ لوجودها في حياتي.
هي ذاتها التي جعلتني أدركُ أن كل كلمة أكتبها، ولو في ورقةٍ أكاديمية مملة، لو لم تكن قصة فهي لن تكون.
وأن كلّ ذهول هو ابن هذا الخيال، ابن القصص التي تعلّمَ عقلي ألا يمشي دونها، وألا يتتبعَ يومه دونَ القص.

أن تطرز، أن ترسم، أن تخربشَ الكلمات متتالية دونَ أي معنى ممكن، يعني أن تبدأ كلّ يوم بقصة جديدة، وأنكَ مع كل التعب الذي نهشكَ من الداخل، أنتَ تدركُ أنك تعيشُ قصةً جديدة. أن كلّ حلقة من "تلفزيون الواقع" الذي نعيشه كلّ يوم، هو جزءٌ من قصةٍ كبيرة تكون واحدةً من قصصِ حياتك هذه، ولربما قصة ضمن مجموعة القصص التي ستعيشها روحك وهي تتنقل بين الحيوات وبين الأفراد، وأن تقتنعَ فجأة بأنك وإن كنتَ شجرة ذات يوم، ستكون شجرةً ضخمة تمدُ حتى جذوعها تحت الأرض قبل فوقها لتكونَ قريباً من الأشجار الأخرى، يعني أنكَ مجدداً تريدُ أن تعرفَ وتكون القصص التي يمكن أن تكون.
أنكَ مجدداً ولألف مرة تعرفُ نفسكَ والآخرين، وحتى الأشجار الأخرى، لتعيشَ قصصاً وقصص، ولتعرفَ أنكَ كلما طرزت حرفاً تغزلُ بداخلك أرضاً جديدة لتكونَ قصةً أكبر، أعمق، أغرب.. القصصُ والقص.

قُصّ عليي كل يوم قصةً جديدة، منكَ، من السابق ومن اللاحق، ومما لا يمكنُ أن يكون.. قصّ عليي كثيراً فأحبكَ أكثر كيفما كنت، حتى لو كنتَ نصاً أقرأوه في موقعٍ بائس.

هذه القصص هي البدايات التي نختارها نحن فنخوضُ فيها وهي جزءٌ من البداياتِ الكثيرة الكثيرة.. من القصص العجيبة التي لا تنتهي بانتهاء أي نص، فلا نص ينتهي، وشكراً لأجدادٍ اخترعوا الكتابة والطابعة والانترنت، لنشفي غليل بحثٍ عن القصص والنصوص الجميلة التي لا تنتهي.

قُص. 
- آخر أيام الدوحة العجيبة.





هوامش عن الموت 1

متى نعلم الناس بتلك الأخبار التي تزعجهم؟ والتي إن عرفوها لا يعودون لحظة للخلف. متى نقرر كيف نخبر الناس ما يؤلمهم أو يفرحهم، تلك الأخبار التي...