Monday, September 29, 2014

تقرير المصير بالكلمة الشعبية المُهربة - أثر الأغنية في انتفاضة 1987 ..

تقرير المصير بالكلمة الشعبية المُهربة
أثر الأغنية في انتفاضة 1987

"إيد بتخلع جواسيس وإيد بتزرع حرية, يا خيي الشعب نَوى الانتفاضة يومية, شعبي هب وما في خوف الحجر صار كلاشنكوف" , للوهلةِ الأولى نتخيل هذه الكلمات بياناً سياسياً من أحد الفصائل الفلسطينية, ولكن ما نلبثُ أن نكتشفَ أنها كلماتُ لإحدى أغاني ثورة الحجارة 1987, وفي ذاكرتنا كم نستحضرُ هذه الأغاني حتى لو كُنا صِغاراً لم نعشْ تلكَ المرحلة, ولكن همسةٌ للجيلِ الجديد, هناكَ قصةٌ فريدة وراء هذه الكلمات, بغيابِ أسماءِ الكُتاب والمغنين, بطريقة التوزيعِ والنشر.
في 1987 لم يكن مسموحاً الغناءُ في العلن, كانت خياطةُ العلم, كتابةُ نصٍ وطني أو حتى حيازةُ شريطٍ وطني يندرجُ تحت مسمى "المواد التحريضية" التي كان يُعاقِبُ عليها "الحكم العسكري الإسرائيلي" آنذاك بالسجن ما بين الستة شهور والثلاثة سنينأغاني الثورة قصةٌ لم تُوثَقْ بعد, إلا من نجمة علي, الشابة اللاجئة من الجليل الأعلى إلى حيفا.
نجمة علي اختارت  الأغنية المقاومة ثورة الكاسيتات في انتفاضة عام 1987 كموضوع رسالتها الماجستير في الجامعة العبرية, وبدأت قصتها التي اكتشفت لاحقاً مدى تشابهها مع أغلب زملائها في فلسطين, فتقول: كُنا نستمع للأغاني الوطنية منذ الصغر ولكن منعنا أهلنا من غنائها, وكان من المهم جداً تخبئة الكاسيتات في حالات التفتيش وإخفاض الصوت في السيارة حال المرور قربَ الشرطة الإسرائيلية, ومن ثم خلال دراستها في الجامعة  أقيمَ حفلٌ وطني ضخمٌ في القدس فوقف الجميع وبدأوا الغناء بصوتٍ واحد, كانت أول مرة تغني هذه الكلمات.
ما دام الغناءُ كان بهذه الخطورة, فلابدَ لنا أن نتصورَ المعاناة الكبيرة في إرسال وتحصيل الكاسيتات والأغاني, كانت الكاسيتات  الوطنية تُهرب داخل الأراضي المحتلة عبرَ تهريب شريطٍ واحد ونسخه حال وصوله للمنطقة وتُباعُ في المكتبات لا في محلاتِها, وبعدَ وصولها للمنازل ظهرت الفنون في تخبئتها حتى لا يصلها يدِ أيِّ مفتشٍ يمر, في الثلاجات وبين الطناجر وفي السقف وفي جوفِ الأرض وغيرها,  وليضمنَ الفلسطينيُّ لحظتها عدم اعتقاله لحيازتهِ "المواد التحريضية"; انتشرتْ آليةُ تسجيلِ عشرِ دقائق من أول الكاسيت بالقرآن أو بأم كلثوم.
تمركزَ إعداد الأغاني في الضفة قطاع غزة ومنها تنشرُ الأغاني لباقي المناطق في الأرض المحتلة, وتظهر الاختلافات الشاسعة بين أغاني ثورة 1987 التي أنتجت في داخل الأرض المحتلة وتلك التي أنتجتْ في المنفى. الأغاني المُنتجة من داخل الأرض المحتلة كانتْ شبيهةً ببيانٍ سياسي وكانت كلماتُها رموزاً موجهة, مثل: "بكرا العصيان المدني ولسا الحبل ع الجرار", ومن هُنا نرى كيف تم اعتماد الأغنية كآليةٍ سياسية وطريقة من الفصائل الفلسطينية لحشد العواطف والجماهير, لتوجيه الشعب, فأهم ما يكون في الثورة الشعبية أن تُشعِرَ الناس بأهميةِ دورها في الثورة, عن أثرها الذي لا يزول باعتبر المسوؤلية تقع على الشعب كاملةً. 
في الكاسيتات داخل الأرض المحتلة نستغربُ عدم معرفة أسماء المُعدين للأغاني وعدم معرفتنا بأغلبهم حتى اليوم, كانت تُنتج الأغاني وتُوزع دون معرفة القائم عليها حتى لا يُعاقب, كان الطابعُ توجيهياً ثورياً من جيلٍ نشأَ على الأرضِ ذاتِها, لا يُغني لحيفا وعكا بل يُغني للوضع للحياة اليومية, للثوار والأرض التي يعرِفها, ولكن حتى دون ذكر الجهة المُعدة أو توجهها السياسي كان يتم الاستدلال عليها من خلال الكلمات الموجودة داخل الأغاني, والاختلاف الشاسع عن الأغاني التي أُنتجت خارج الأرض المحتلة, التي لا نُقلل من قيمتها ولكن نرى الفرق الواضحَ فيها.
فأغاني العاشقين, وأحمد قعبور, وسميح شقير وغيرهم كانت أغانٍ بطعم الرومنسية الثورية والتَغني بالفردوس الضائع, اختلفت الكلمات والعبارات المستخدمة وحتى الأهداف من هذه الأغاني, فيظهر فيها الإبداع في الكلمات والألحان والموسيقى, على عكس الأغاني المنتجة داخل الأرض المحتلة التي نرى الصوت فيها عادياً والاعتماد على المغنيين والتصفيق والألحان الشعبية البسيطة.
لمن عاشوا فترة الانتفاضات لا بد وأنهم يذكرون الأعراس الوطنية, ويرجعُ ذلك لعدةِ أسباب, في البداية مُنعت الأعراس مع بداية الثورة, ولكن بعدَ أن أغلقت المدارس والأسواق كانت المناسبات الاجتماعية هي مكان الاجتماع الوحيد, وبالتالي أًصدرت التعليمات من القيادات داخل الأرض المحتلة بإقامة الأعراس ولكن باقتصارها على الأغاني الوطنية الشعبية فقط.
برزت شعبية الأغاني بالتوجيهات التي تم تنفيذها من الشعب, برزت عندما تم استخدام هذه العبارات كهتافات في المظاهرات في الشوارع في كل مكان, وبرزت أيضاً بالعبارات على الجُدارن. في الفترة التي تم التضييق على الصحافة فيها لجأت الفصائل الفلسطينية إلى الكتابة على الجدران في الشوارع بخفية وسرعة ليلاً نشراً لتحركاتها وبياناتِها وأوامِرها, وكانت تُكتب اقتباسات من الأغاني على الجدران أيضاً.
اختلفت المصطلحات المستخدمة آنَذاك عن الكلمات المتداولة الآن, فتذكر لنا نجمة كيف كَثُرَ استخدام عبارات تقرير المصير مع كلمة دولة, كيف كان التركيز على مصطلحات التحرر, والهوية, والكفاح المسلح مع التحرر, فبالتالي كان التوجه كاملاً نحو عبارات تؤكد الاستقلال مركزةً على دور أطفال الحجارة والمقلاع, وعلى أهمية اللجان الشعبية الموجودة في تحريك الشارع الفلسطيني كاملاً.
"مطلب تقرير المصير وحق العودة والدولة, بالانتفاضة منسير للمؤتمر الدولي, صار الفيتو الأمريكي, يقول الصهيوني شريكي, وغني معي يا رفيقي, لا للإمبرالية", بعد انتفاضة الحجارة بدأت الصورة تتغير تدريجياً, وكما توضح لنا نجمة: "انتقلنا من مرحلة الثورة إلى مرحلة التسوية", وبعد هذه المرحلة تحولت الأغاني لأغاني حنين واختلفت عن المصطلحات المستخدمة سابقاً, وبعد مرحلة أوسلو وصلنا لمرحلة بناء دولة -بالرغم من وجودنا تحت احتلال إلى الآن- لم تعد الأغاني الشعبية تلعب نفس الدور.
الكاسيتات كانت ثروةً في السابق تقودُ ثورةً شعبية, اختلفت الموازين واختلفت الطرق وما زلنا نحكي من تاريخنا القصص الفريدة من نوعها, لم نكن الشعبَ الوحيد الذي أثارتهُ وحرضتهُ الأغاني الشعبية ولكننا نفتقرُ لتوثيق الماضي بمختلف أشكاله.

مجد حمد

29-9-2014

هوامش عن الموت 1

متى نعلم الناس بتلك الأخبار التي تزعجهم؟ والتي إن عرفوها لا يعودون لحظة للخلف. متى نقرر كيف نخبر الناس ما يؤلمهم أو يفرحهم، تلك الأخبار التي...